أجلس وحيدا، في ركن  مقهىً .. أطالع صفحة من صفحات كتابٍ، بين حين وآخر يخطفني منه جمالٌ فتاة آتية، فأتأمله، أتفحصه، وأضع ما اختفى منه في خفايا النفس تحت مجهر القلب، أو عطر فواحٌ يهمس إليّ ويخطفني من وحدتي، فأبحث في تكوينه ... أمامي قهوة في فنجان لا يحجب ما فيه (شفاف)؛ المقهى اليوم شبه خالٍ - وهذا ما أفضله - وأهم سبب في اختياري للمقاهي التي أرْتادها، بجانب جودة المصنوع والصانع، إن الأمكنة تنقش حبها بما تمتلكه: في جمال الموجود، وما تمنحه من هدوء، وجودة ما تقدم... تألفها الروح، وتلح علينا النفس إلى ارتيادها إن بغتْ واستبدتْ بها وعليها الحياة. 

 

استل سمعي صوت نعال (كعبٍ عالٍ) ، يقترب، يدنو أكثر، أرفع نظري، وإذا بفتاة فائقة الجمال، وكأنها خلقت كما تشتهي وكأني بجسمها منحوتٌ، ترتدي بنطالاً؛ رمادي اللون، فضفاض من الركبة حتى الكعب العالي، ضيقٌ، فضاق بما فوق ذلك، وقميص مزركش، يبدي من الجمال ما لا ينبغي أن يُظهره.. 

 

بادرت: هاي، كيفك و... (بالفرنسية). وبدلع غير مكلف هادئ. 

 

ابتسمت لها، ولم أنطق حرفاً... استدركتْ، فأعادت سؤالها بالانجليزية، وبالعربية، وهي ترسم ابتسامة غير خجولة، فرديتُ، ثم سألتها عن حالها، وتبادلنا قليلا من الحديث ببعض كلماتٍ بين العربية والإنجليزية؛ ثم قالت:-

 

«ألا تعزمني على قهوة».

أجبتها: طبعا؛ أكيد ونص  (هذا الحديث بالإنجليزية).

 

لاحظتُ خمس شباب واقفون، على مسافة منا ... ينتظرون

 ففهمتْ ما قصدتُه، وأنا أنظر إليهم؛ خاطبتهم قائلة:

   اجلسوا هناك، سنشرب القهوة، وأشارتْ لهم إلى طاولة في آخر الممر. 

أطاعوها، دون أن يبدي منهم اعتراضاً، يضحكون، ويبتسمون.

(جلسوا، وبيننا ثلاثة طاولات، لا يجلس عليها أحدٌ). 

 

أعزمني على هذه، مشيرة إلى فنجان أمامي، ثم قالت مستدركة ب: 

 

what›s this ? 

أجبتها: كورتادو (Cortado). 

 

--------

 

 

(14)

الشكل، لا يبوح بكل الحقائق

 

دخلتْ إلى مكتبي فتاةٌ، قصيرة القامة، خفيفة الخطوات، ترتدي جلباب يحجب مفاتن جسدها المكتنز، فقط وجهها الأسمر أبدته، لا يُرى عليه أي أثرٍ من مساحيقٍ، عيونها من بين النظارة تخطف النظر، كبيرة، وناصعة في بياضها، شديدة في سوادها؛ وباستحياء سلمتْ، وقالت: هل هذا مكتب ... (فلان). 

 

أجبتها: بنعم .. تفضل (أشرتُ إليها أن تجلس) . تجاهلتْ... وسألت: متى سيصل؟ ابتسمتُ لها. تفضلي، اجلسي ... أي خدمات؟ 

 

 حركت رأسها رفضا، وقالت: أبغاه هو، أبغاه بموضوع خاص. (في مخارج حروفها خليجية). نهضتُ أنا، وانتقلتُ  من كرسي الاستقبال إلى كرسيّ يقبع خلف المكتب، وقلتُ مخاطبا: بم أخدمكِ..؟ 

 ارتبكتْ، تلعثمتْ.. فتدحرجت الكلمات على شفتيها ثقيلة بطيئة.. عف...وا، لـــ...م أقصد.. سعُلتْ.

  تمْتمتْ، فهمستْ: لو سمحتَ قل الآنسة.

 

بقلم الكاتب القاص/

حمد موسي