أنا حرة، أخرج متى أشاء! وكيف أشاء ! افعل ما تراه مناسبا! قالتها :  وأخذت حقيبة يدها وهي في كامل أناقتها، رمقته بنظرة ذات معنى قبل أن توصد وراءها الباب بقوة اهتز لها أركان البيت، كانت عقارب الساعة تزحف بكسل نحو السابعة مساءا بالتوقيت المحلي، تلجم، ولم يتحرك عن أريكته التي كان يجلس عليها، لقد أطبق الصمت على المكان... يواصل غيبوبة ذهوله وهو منحني الرأس بينما عينيه مستقرة على السجاد المفروش عند قدميه...أخذ نفسا عميقا قام من مكانه ودلف إلى المطبخ يحضر قهوته، كأن القهوة أصبحت مسكنا لآلامه يطلبها كلما تعكر مزاجه أو تشاجر مع زوجته، بأعصاب مشدوهة يزرع المطبخ ذهابا وإيابا، توقف لحظة عند قبالة النافذة دون حراك، إلا نظرات عينيه الفارغتين اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى لا شيء، بينما زقات المطر المتساقطة تنساب كخيوط لامعة على زجاج النافذة ،  

 لمحت عينيه الصورة المعلقة بجانب النافذة، كانت الصورة قد التقطت يوم زفافه وهو يضم عروسه بحبور،...! إغرورقت عيناه بالدموع، تسمر أمامها واقفا دون حراك، كمن يقرأ بين جنباتها سطورا متصلة، وخيوطا من الكوابيس المرعبة، المتشكلة لحظة التقاطها مع كل أبجديات التشرد وصنوفا من العذاب والمعانات...إنها الصورة، نعم الصورة كما الذاكرة تغتالنا مرات، وبإجحاف كلما ألقينا عليها نظرة، أو امتثلنا أمامها بحنان ماضينا، تنقلنا إلى فيافي نفوسنا المنكسرة، تنبش في دواخلنا جرحا نازفا يأبى أن يجف رغم مر السنين، ونزداد معها ندوبا نفسية وعاهة لا تمحى مع الزمن،...انقض على الصورة في حالة هستيرية كالملسوع وهوى بها على الأرض .. ضربة تناثر معها قطع من الزجاج المكسو بواجهة الصورة على البلاط، جلس متهالكا على الأريكة يجهش في بكاء مرير، وكأن آلة حادة تمزق شرايينه ظل في هذه الحالة، إلى أن داعبت عينيه سنة وادعة استسلم معها إلى نوم عميق،   وقف أمام المرآة يحلق ذقنه يسترجع تفاصيل الليلة، شجاره مع زوجته وغيابها عن البيت، بل امتد به شريط الذاكرة بكل تفاصيل المرحلة بالأبيض والأسود...بدأ يعاين حياته لحظة بلحظة، اكتشف أن ما اعتقده استقرارا أفضى مبكرا إلى  سراب، يتساءل كم شابا مثلي أوشابة رضخوا لرغبة الأهل و دمرت حياتهم بهذا الشكل المخيف؟ وكيف أن حياتنا تتطابق في المأساة ؟ قرر منذ تلك اللحظة أن يتمرد، أن يعيش حياته بعيدا عن التزامات الزوجية بعيدا عن المسئولية، أن يتحرر من قيود هذا السجن المسمى (الزواج) الذي حول حياته إلى جحيم لا يطاق، اعتزم هذه المرة أن يقرر حياته بنفسه، لقد دفع ثمن طاعته، أن مصدر تعاسته حياة لم يقررها بنفسه، أدرك أن رغبة الأهل استعبدته...استعبده زواج قطع خلاله وعد البقاء مع القرين مدى العمر..أطلقها فورا : كلا، كلا، الأفضل تركها وشأنها، لن أذهب هذه المرة إلى بيت أبيها لأسترجعها كالعادة كلما تشاجرنا، لن أعبأ بها، ولن اسمح أن يتكرر معي هذا الذل مرة أخرى، آه من الروعة أن يكون المرء حرا، في النهاية تستمر الحياة، لست أول رجل يتمرد على الزواج وعلى التقاليد، بالطبع لن أكون الأخير..انتشلته رنة الساعة من هواجسه وأفكاره المتداخلة، أدرك أن الساعة تشير إلى الثامنة صباحا، بعجالة ارتدى ثيابه أخذ حقيبته يهرول إلى العمل.  

دون اهتداء وجد نفسه يجوب شوارع المدينة في السيارة، لم يحدد بعد إلى أين يتجه، سوى استعداده المفرط لمطاردة أي فتاة ناهدة الصدر، ركن سيارته بجانب الشارع الإثيوبي المليء بالحانات والبارات، جلس داخل سيارته يوزع نظره بين المارة ، ظل يجلس ردحا من الوقت ، حتى أنه لا يدري لماذا يجلس في هذا المكان، وفي هذه الساعة بالذات، سوى الشعور بأفكار مجنونة تحتدم في رأسه ، لمح من بعيد ثلاث فتيات تمشين باتجاه الحانة ، لوهلة أراد اللحاق بهن، لا كن ماذا سأقول لهن؟ تبادر هذا السؤال:إلي ذهنه..  -اللعنة- لم هذا الخوف يطاردني دائما قال: ذالك وضرب رأسه بالمقود بحنق، أدرك في تلك للحظة أن خوفه سيظل عائقا أمام قراراته، لأنه يخشى في دخيلته التغيير..نعم تغير ما درج عليه وهو يكبر، أدار مفتاح سيارته، انطلق بسرعة رهيبة نحو كورنيش (فينيس) ومن ثم اتجه إلى جهة الميناء، سالكا الطريق المؤدي إلى فندق كمبسكي المطل على الساحل، لمح من بعيد بائعات الهوى، واقفات على الرصيف بين كل واحدة منهن مسافة قلل السرعة بدأ يوقف سيارته، ورأي فجأة واحدة من الفتيات تأتي نحوه بدلع وهي تتباهي بتسريحة شعر قبيحة عجائبية، وإن كانت ملامحها معقولة لحد ما، مع كل خطوة منها نحوه تتسارع دقات قلبه والعرق يتوصد جبينه...  

- هههههاي مساء الخير  

- ممممممم مساء النور  

هل يمكنني الركوب، أومأ رأسه بالموافقة، بينما تكهرب جسمه كليا من رأسه إلى أخمص قدميه ، أحست الفتاة بحكم عملها وخبرتها في هذا المجال أنه خجول ابتسمت له بخبث وبحركة عرفت بها الغانيات أمثالها. دون أي مساومة تطلب منه التحرك.  

 

- يالك من طفل وديع هيا انطلق  

- إيه إيه اىه إلى أين  

 إلى أي مكان تراه مناسبا، اعتدلت في جلستها بارتياح  وهي تدرك أنه فقد بوصلته، وأنها أمام فريسة سهلة، وقالت: له بخبث وابتسامة باهتة على شفتيها بما أنك خجول مثل البنت إلى هذه الدرجة لدي فكرة نشتري قنينتين من الخمر من متجر (فرتكسي) القريب ستستعيد قوتك وتوازنك ، فتح درج سيارته بيد مرتعشة أخرج كمية من الأوراق النقدية لا يدري كم ناولها.. بعد دقائق تخرج الفتاة من المتجر تحمل قنينتين من الويسكي .. هيا اشرب.. بعد تردد ارتشف قليلا قبل أن يبصقها على الأرض،..هيا أغمض عينيك اشرب، بينما أنامل يدها تبحر لاكتشاف العرض المبهر للجغرافيا والتاريخ...أخيرا بعد إلحاح مستمر يفرغ نصف القنينة في جوفه، يحس خلالها بنشوة غير عادية.  

وصل إلى البيت وهو في حالة يرثى لها.. بيد مرتعشة يحاول فتح باب البيت ومع كل محاولة يسقط المفتاح من يده ، أسعفته زوجته التي لم يتوقع وجودها في البيت دخل متحاملا وقال : بصوت مخنوق أجش - اللعنة -  ماذا تفعلين هنا؟ اخرجي هيا، اذهبي إلى حيث أتيت، صدمت من سماع هذه الكلمة وهذا التمرد البادي عليه، لم تألفه بهذه الحالة وبهذه الخشونة سوى الطاعة العمياء لها في كل شيء !!! .. بحركة سريعة ساقها من شعرها ودفعها بقوة إلى الخارج ، دون أن يلتفت إليها أحكم الباب ورائه ...، دخل غرفته وارتمى على السرير بينما رائحة الكحول تملآ الغرفة.  

بقلم/

 محمد عتبان