لا أتذكر ما كانت ترتديه، لا لون الدرع ولا الساري/ الوشاح الذي اعتلى صدرها، أقرط أذنيها فضيا كان أم من ذهب أصيل، ساعة  يدها لبسته بيمين أم يسار ... فقط، ظل شيء واحدٌ عالق في عينيّ، وفي مخيال ذاكرتي، شعر أسود، ينساب إلى خصرها، واتخذتْ له شكلا يشبه ذيل حصان، وبيني وبين نفسي همستُ:

«لا شك بأنها تُجرية، أو قبساً من جماله، وفيه الكثير الكثير».

مضى على ذلك عام كاملٌ، وستة أشهر، وثلاثة أيام...

صادفتها اليوم بل جاورتني بالمقعد في ميني باص المتجه إلى حي هدن، الأمر  نفسه راعني فيها، وكأن لم يمض على لقائنا الأول يومٌ، شعر أسود كــ ليل شتائيّ حالك - فقط - حررته اليوم من قيده، تركته منسدلا على أكتافها، فتنبعث منه روائح زكية؛ الأشهى والأقرب إلى أنف الرجل الشرقي، به من الشرق عودٌ، ومن الغرب زيوتُ إنجليزية.. هذه الروائح توقظ عصافير قلبي، ويشد إليها فؤادي الرحال ... التسريحة الفاتنة.

ترتدي درعا وردي-فاتح، تحمي جوالها بكوفر وردي، وحتى طلاء أظافرها وردي ... وجهها دائري به بعضٌ من أثر حَب الشباب، ونتوءاته من البقع السوداء.

مشغولة بالهاتف جزئيا، وجزء من عقلها مشغول باليوم والغد، و بالرجل الغريب، الذي تجاوره، فمنذ أن جلستْ لم يُثره وجودها ولم يداعب فيه فضولٌ، كأنه صنم وُضع بالمكان ليُشغله، يطالع من وإلى زجاج السيارة وإلى الرصيف، والمارة...

رفعتْ نظرها إليه، ومازال بنفس الوضعية معقود اليدين إلى بطنه، وأمال رأسه إلى الخلف، وعلى الكرسي، وعيناه تناظران الخارج عبر الزجاج شبه شفاف دون.. فظلت تنظر إليه برهة.

حركتُ (أنا) شفتي مدمدما:

عامٌ كاملٌ، وستة أشهر، وثلاثة أيام...

عدلتُ من جلستي وقلتُ، وأنا أنظر إليها: عامٌ كاملٌ ... وستة أشهر ... وثلاثة أيام...

رسمتْ (هــي) على ملامح وجهها ما يبدي الاستغراب.

واستطردتُ:

رأيتك في مولٍ، وقد أدبرتِ وتسريحتك ذيل الحصان تغازل المارة والقاعدين بالمقاهي، وأنت تعدين الخطى - قبل عام وستة أشهر وثلاثة أيام - من ساعتها؛ ظلت تسريحتك تداعب خيالي، وتطرق أبواب ذاكرتي كلما صادفتُ أختها.. لأمرٍ أراده الجمال، فأبقاها حية دون سواها.

أأنت مجنون...؟!

سكتت، تنتظر جواباً ... ثم أكملتْ

أم أنك متمرسٌ  احترف معاكسة البنات ... يهوى الكذب ويزاوله في المواصلات العامة.. أخذتْ بعضا من أنفاسها:

كيف لك أن تتذكر وتحفظ بهذه الدقة حتى عدد الأيام.. ثم ابتسمتْ مستهزئة، وزادت: مادام تتذكر العام وعدد الشهور والأيام، قل لي..

قاطعتُها وقلت لها:

وتسع ساعات.

رسمتْ هذه المرة، ابتسامة استغراب وتعجب، وقالتْ:

«أكيــــد أنت مجنـــــون»

أجبتها: الجنـــــــون!

«الجنون هو، ما يصيب عقل الرجل من الجمال .. وما الجمال إلا تلك النظرة، التي تحمله إلى القلب كما تحمل السحب السوداء مطرا، يصيب أرضا جرداء فينبتُ زرعا، وكذا الجمال يصيب  القلب وينبت فيه حياة من الحب، حتى تطغى المحبة على منطق العقل الرياضي فتعميه عما سوى المحب».

ضغطت بإبهامها على شاشة تلفونها، وانشغلتْ عني فيه. وأنا تظاهرتُ أيضا، وفتحتُ هاتفي الجوال.

مرتْ دقيقتان وثوانٍ، وكل منا يتظاهر ... إلى أن وصلنا منتصف جسر (كبري) حنبلي، وبدأ (الشاحن) الكريشبو بجمع الأجرة..

شق.. شق.. شق

فسبق قلبي يدها إليه ... شكرتني بإيماءة و ابتسامة ارتياح. ثم قالت:

أحقا تتذكر..؟ لا أصدق ما قلته. وبإنجليزية ركيكة قالت:

No, No, ..

Impossible

حاولتُ أنا؛ اقناعها ...

ولكن عبثا كان.. كيف لها أن تستوعب جنونا كهذا.

وقف الباص، بعد أن صاح أحد الركاب من آخر كرسيّ، وقف أمام مستشفى ((Cheiko المعروف بمستشفى ال (Tilyani) ظل الباص واقفا لدقائق كثيرة بسبب الزحام، هذه المحطة تكتظ بالسيارات الخاصة والعامة،في ساعات وصول القات وخاصة يوم الخميس، وعلى جانبي الطريق طاولات القات مرصوصة، يتزاحم إليها الرجال والنساء؛ وعلى بعض الطاولات دون غيرها .. سواقٌ يركن بمحاذاة الرصيف وآخرٌ خلفه، وثالثٌ بجانبه، سواقوا الباصات يسلمون ويحيون بعضهم، وأحيانا ينسون أنهم على مقودِ في منتصف الطريق .. كل ذلك  يسبب زحام مروري خانق جدا، تتعالى فيه أصوات المركبات، وتنطلق همهمات الركاب بينهم، فتتداخل همهمات الناس مع أبواق السيارات.

باغتتني بلمسة على  كتفي، وقالت بوجه طلق باسم:

(صَفِيّـــــة عُتْبان) ...

بنتَ عمَ خطيبتك (كَرَيْرَةْ)  KARERA.

 

انتهـــــتْ

بقلم الكاتب والقاص/

حمد موسي