بعض الوظائف تقربك من البشر، عائدها المعنوي يفوق ويتفوق على المادي، تقابلك أصناف من الأشكال الجسمانية، وأطياف من النفسيات، الهادئة، والمزاجيــة المتقلبة، ومنهم من يريح بصرك إذا نظرت إليه، وآخرُ ترتد إليك نفسياته الجاثمة على وجهه ، فيُعديك.

وهناك مواقف إنسانية تجلب الفرح والأمــل، ومواقف تُخْلِف الحزن والكآبة وتثير أسئلة تظل أجوبتها كامنة في المشهد، ولا يمكنك أن تصل إلى قاعها وحقيقتها مهما تعددت السيناريوهات و التأويلات لها في مخيالك. 

-------

خرجتُ صبيحة يوم الأربعاء - الساعة 7:00 - من البيت، فوصلتُ مقر العمــل - 7:30 - وفي طريقي لم ألحظ أو تلتقط عدستي ما يستدعي التفكير حتى وصلتُ. 

عند بوابة المستشفى امرأةٌ مسنة تتكئ على عكازين، تحاول الجلوس ولم تستطع بسبب تحرك عربة المعاقين (كرسيّ متحرك) وبمسافة مترين منها حارسُ يجلس على كرسيه ولا يهتم لشأنها. اقتربتُ إليها ، ثم سألتها: كيف يمكنني مساعدتها، فأجابتني: أنتظر أحــدهم. 

(وبعد نصف ساعة) .. أي الساعة (8:00) 

 وجــدتُ السيد المسنــة حيث تركتها بالعَربة... فعرضـتُ الخدمة عليها وقبل أن تجيب أقبل شابٌ في الثلاثينيات،  قبّل رأسها واعتذر عن التأخير، وبرر ذلك: 

(لأنه كان يوصـل الأولاد إلى الدراسة، وفي الطريق أوصل زوجته إلى عملها.. الطريق كان مزدحما يا أمي؛ قال ذلك وقبـل رأسها للمرة الثانيـة). 

 ابتسمتْ أمــه وربتَتْ على ظهر كفه، التي على كتفها، وقالتْ: هــذا الشاب ساعدني.. فسلم عليّ بكل ودّ واحترام، وقال:  شكــرا.  استنتجتُ في آخر الحوار: كانا اتفقا بأن تنتظره بالبيت، ليمر عليها هو، لكنها خرجـتْ قبله.

هذا الموقف ذكرني بموقف مرّ بي قبل أسبوعيــن:

صادفتُ رجلا كبيرا في الســن بــساحة المستشفى؛ يصرخ في وجــه الجميع، وفهمتُ أنه يبحث عمـن يساعده في الترجمة .. الطيب لا يفهم علـيه، والمترجم لا يتكلم لغتــه. 

خرج من عند الطبيب باسماً، أمسك معصمي، وسألني عن اسمي.. 

وفي أثناء ذلك رن هاتفه، فرد قائلا:

الحمدلله يا ابني... الدكتور كتب ليَ العلاج. (وحكى له عني وكيف ساعدته، بل بالغ في مديحي). 

هذا ابني كان مشغولا، لم أرد أن أضغط عليه فأزيده همّــا؛ أحفادي يعودونّ  من الدراسة هذه الساعة، وخفتُ أنْ أُشغله عنهم، فيتأخرون. 

__________   

في المرة الأولى (في حالة الأب) رأيتُ الأمر عاديا ولم يتطلب مني التفكير، وفي الموقف الثاني، مع مشهـد تقبيل الابن رأس أمــه معتذرا، استحثّني ذلك على التفكير! ولأنّ اجتماع هذين المشهدان أثار في نفسي سؤالا: 

أين هذا من عقــوق الوالدين؟ 

إن لم يكــن عقـوقا: أين تكمـــن المشكلة؟

 

بقلم الكاتب والقاص/ 

حمد موسي