لاحظتُ تحت جفنيها تورم صغير، سألتـها، فأنكرتْ، بل ذهبت إلى اتهامي بالخيـال والمبالغة، وبعد نقاش لا يوصف بالقصر أو الطـول قررتُ ومعها: أنْ نزور الطبيب لعمل فحص سنوي شامـل.

أمي إنسانة بسيطـة جـدا جـدا، تكره التملّـق والتزيّـن بصبغ النفاق  المنتشر في بيئتنا العصرية، أقصـى أمانيـها أن تعيش بكفاف ، إذ طفولتها ونشأتها الريفيـة غالـبة على كل شـؤون حياتها، لا تتكلـف ولا تتصنع، بقدر حاجتـها اليومية تعيش، وما عدا ذلك زيادة ورفاه: ينبغي التقرب به إلى الأهـل والجار.  

بيتها! هو عالمها الخاص، لا تخرج إلا مضطرة، مسالمـة جدا، لدرجة لا يشعر الجيران إن حضرتْ أو غابت لفترة عن الحارة، حديثها أقل ما يوسم به أو أقرب إلى الصمت، لا تخوض في عِرض أحـد، السياسة وكل ما يتعلق بها خوض فيما لا يعني. 

أغلب أبناءها، أي إخواني أخذوا وتخلّقوا بهذه الصفات إلاّ كاتب هـذه السطور، يخوض في السياسة، وسريع الغضب، وشخص لا يحب البساطـة، يبذر وينفق أغلب ما يملك بالرفاهيات والمظاهر.. لا يخجل بأن يشتري بنصف راتبه عطـرا فرنسيا أو ساعـة  ... 

__ 

بعد انتظار طبيب الأمراض الباطنيـة، والكشـف عليها واجراء فحوصات... خطرتْ وقفزتْ إلى تفكيري فكـرة (يومٌ للذكرى)! فاقترحتُ عليها الغذاء خارج البيت لأول مرة في حياتها العامرة بالبساطة، قاومتْ لكن إصراري كان أقـوى.

في المـول: اخترتُ مطعـم بيتزاهت، أكل البيتزا لامرأة مسنـة وخاصة إنسانة كأمي: لم تضع لقمـة في فيها أمام هذا العدد من البشر كارثـة وجرمٌ كبير، لا يُغتفر وتحس كأنها عارية، أو كطير مبلل يرتعش، تقرب اللقمة ودون أن تقضم منها تعيدها إلى مكانها.

جلستُ بجوارها، فبدأتُ ألحّ عليها حتى أطعمتها من يدي قطعتين، فأبتْ أن تطعم الثالثة: فجأة اقتربتْ إلينا امرة سمينة، تخطو خطواتها ببطء شديد، عطرها يسبقها الخطى إلى أنفـي، باسمة؛ فـحيّتْ واستأذنتْ، أذنتْ لها أمي. 

جلستْ، كمن يجلس القرفصاء، غطّـتْ جلّ الكنبـة:

هل هي أمكـ؟ (سألتني السيدة) 

أجبتها: نعـم، مقبّلا جبهـة أميّ؛ كسى الحياء وجـه أمـي، والتعبير عن الحب والقبلة في الأماكن العامة عيب وخدش للحياء العام والخاص بنظر نظراء والدتي. 

قالت السيدة: هنيـئا لكـ يا خالة، كان في صوتها حسرة فقدان ونغمـة حزن، ثـم طلبت بكل جمالٍ أن تصور ولكن كعادة أمي، اعتذرتْ بأنقى الكلمات.. وبقي كل شيء بسيطا.

 

 الكاتب والقاص/

حمد موسي