ولد في ظرف استثنائي ولم تكن ولادته طبيعية.. نشأ مرفّها وعاش كفيفا قصير اليد. موهوبٌ تفوق على أقرانه -لكنه لم يكن محظوظا مثلهم- أعلن والده الإفلاس وهو لم يتمم الابتدائية وتوفي عمه (الذي تعلق به كثيرا) وهو في المتوسطة. قررت والدته الرحيل والعودة إلى مسقط رأسه في شمال الوطن تلبية رغبة أبويه والديه ولرعايتهما.

 كان ذلك نقطة تحول في حياة طفل لم يعهد الجوع ولا العيش إلا دلوعا ومرفها، وما عادت الفرنكات رفيقة جيبه الصغير ولا الملابس الجديدة في الأعياد تستهويه ولا العطر مندوبا لرفاه حياته لدى جلسائه. كل أحلامه تمحورت فيما يسد الجوع ويغطي الجسد. من طفل ينعم بما اشتهى وأراد إلى شاب يحلم بلقيمات يقوي به الساعد، ليواصل التنفس وينظم بها نبضات القلب وإيقاع المصير... لم يفهم هذا الصغير ماذا حلّ به وبتجارة والده، ولم يستوعب كيف تحوّل كل شي كان يملكه إلى العدم.

ما بقي بين يديه من ثروة والده دفتر مرصع بأسماء المدينين- تقارب ستة ملايين فرنك جيبوتي- قد تساعد هذا الشاب وهذه العائلة لتعيش، لكن أحدا لم يكلف نفسه بالوفاء. فكانت نصيحة الأب عدم المطالبة ما لم تكن بإرادة المدينين. ضحى الابن الأكبر بحياته الدراسية واشتغل ميكانيكا وهو ما يزال دون سن العمل ليوفر احتياجات العائلة مقابل شبابه واحتياجاته.

يخرج في ظلمة الفجر ويرجع في غسق العشاء، الأم لم تكن من تلك الأمهات المتحسرة ولا المشتكية، كان الصمت والرصانة والقناعة أهم ما يميزها.. زرعت في أبنائها القناعة والثقة في النفس وأن السؤال مذلة (قاعدتها العامة: الدموع لكم والابتسامة لمن حولك، ما تأكلونه في البيت سركم، مظهركم رسولكم، لا تظهروا ضعفكم لأحد ليشفق، ولا تمدوا يدا لأحد..

تعلموا فالعلم سلاحكم) تخرّج هذا الشاب من الثانوية العامة بامتياز- واجهته بعض المشاكل- صمد أمامها حتى ظهرت بوادر النور والفرج ليواصل التعليم، لكنّ سرعان ما أظلم أمامه الطريق. واصل الصبر بثقة وعزيمة حتى حقق أول حلمه بدراسة تخصصه المفضل.. هنا كانت المفاجأة قد أخفق قلبه بالحب.

أحَبّ في زمن يُعاقب الفقير لقصر اليد، نبض قلبه في زمن يوزن الإنسان بالفرنكات وبالسيارة، (العلم أو امتلاك السكن لا يهم، قد يُستعان منه بالإيجار أو العيش عالة ببيت الأهل لكن! السيارة لأجلها تفرّق القلوب المحبة والعاشقة، العيش في أروبا جواز مرور لا يُسأل صاحبه شيء، حيث النعم تمطر والقلوب تنبض ذهبا وألماسا). هل يمكن لهذا القلب أن يحظى بالسعادة يوما في ظل المرابحة بالحب؟ وهل يصبر هذا القلب -كما صبر في معاركه السابقة- أم أنّ الشركات الرأسمالية تضع حدا لهذا الصبر وتقتل فيه إنسانيته؟

 

 بقلم الكاتب والقاص/ حمد موسي