على ضفاف البحر الأحمر، حيث تتعانق المياه الدافئة للمحيط الهندي مع ضجيج القارات، تنهض جيبوتي شامخة كجسرٍ بين الشرق والغرب، وكبوابة إفريقية تنفتح على العالم.

 ليست مجرد رقعة جغرافية صغيرة، بل قلب نابض في سُرّة الجغرافيا، وميناء يتنفس منه القرن الإفريقي طوق نجاته.

 هنا، في جيبوتي، يلتقي البحر بالسياسة، والميناء بالمعنى، والأرض بالحكمة بكونها بوابة إفريقيا… جيبوتي بوابة القارة وروحها الاستراتيجية و منذ استقلالها عام 1977، حرصت جيبوتي على بناء صورة مختلفة، فلم تنغمس في الصراعات الداخلية، بل عملت على الاستقرار الداخلي لتعزز دورها الخارجي.

وقد شكل موقعها الجغرافي نقطة قوة نادرة؛ فهي تقع على باب المندب، المضيق الذي تمر عبره قرابة 10% من تجارة العالم البحرية، ويربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، ويشكل بوابة لقناة السويس.

هذه الميزة جعلت منها مركزًا مهمًا للقواعد العسكرية والمبادرات السياسية.

 موانئها، لا سيما ميناء دوراله، تخدم اليوم ملايين الأطنان من السلع المتجهة إلى شرق إفريقيا، وخصوصًا إثيوبيا التي تعتمد بنسبة تزيد عن 90% على جيبوتي لتأمين وارداتها وصادراتها.

لكن جيبوتي لم تكن فقط بوابةً للبضائع، بل أصبحت بوابة للحلول… ومحطة للسلام.

وهي رمانة ميزان في منطقة ملتهبة و في منطقة القرن الإفريقي، حيث تتقاطع المصالح الدولية، وتتصادم المشاريع الإقليمية، برزت جيبوتي بصفتها «صوتًا عاقلاً» في وجه الفوضى.

لم تسعَ لقيادةٍ فوقية، بل لقيادة من نوع مختلف، قيادة بالحكمة، وبالتسهيل، وبالمبادرة.

ولهذا السبب، احتضنت أراضيها قواعد عسكرية للقوى الدولية الكبرى – الولايات المتحدة، فرنسا، الصين، اليابان – لكنها في ذات الوقت حافظت على القرار الوطني المستقل، ولم تسمح بأن يُختزل دورها في مجرد ساحة صراع نفوذ.

وفي عام 1987، اشتد النزاع بين الصومال وإثيوبيا، حيث تسببت خلافات الحدود القديمة والصراعات السياسية المتراكمة في تأجيج حرب أنهكت الشعبين.

ومع تصاعد التوترات، دعت جيبوتي الأطراف إلى مفاوضات، واستضافت لقاءات غير رسمية سعياً لوقف التصعيد.

رغم التحديات، نجحت جيبوتي في خفض التوتر، وساهمت في بناء تفاهم مبدئي كان بمثابة «هدنة سياسية»، وإن لم تنهِ الصراع تمامًا، فقد منعت تمدده وخففت من حدّته، مما عزز مكانة جيبوتي كوسيط نزيه وصاحب مصلحة في استقرار محيطه.

 أزمة الصومال ومؤتمر عرتا: النداء الذي دوّى في الظلام وعندما انهارت الدولة الصومالية عام 1991، بعد سقوط نظام الرئيس محمد زياد بري، دخلت الصومال نفقًا مظلمًا من الحروب الأهلية وتقسيم الولاءات بين أمراء الحرب.

و في شهر يونيو عام 1991 عقدت جيبوتي مؤتمرًا مهمًا تمخض عنه انتخاب السيد علي مهدي محمد رئيسًا للصومال، في أول محاولة لإعادة تشكيل سلطة شرعية رغم الانقسامات العميقة.

وبينما انشغل العالم بحسابات المصالح، خرج الرئيس إسماعيل عمر جيله، في أولى مشاركاته كرئيس منتخب لجيبوتي، في بنداء تاريخي بشأن الصومال أُطلق في خطابه أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في نيويورك عام 1999، وكان ذلك أثناء جلسة مخصصة لمناقشة الوضع في الصومال : > «لا تتركوا الصومال يغرق في الظلام بين أيدي زعماء الحرب، لا تجعلوا أبناءه ضحية لنسيان العالم.» ذلك النداء لم يكن خطابًا سياسيًا فقط، بل كان صرخة ضمير إفريقي.

قاد ذلك إلى مؤتمر عرتا عام 2000، الذي استضافته جيبوتي بمشاركة مئات من زعماء القبائل، والمجتمع المدني، والمثقفين، والسياسيين الصوماليين.

أُقيم المؤتمر على مدى شهور، وتولت جيبوتي كل تفاصيل التنظيم، من الضيافة إلى إدارة الجلسات.

 وبتأنٍ وهدوء، شُكِّلت حكومة انتقالية صومالية برئاسة السيد عبد القاسم صلاد ، وتقرر إنشاء برلمان انتقالي، تمهيدًا لإعادة بناء الدولة الصومالية.

 ولم يكن ذلك النجاح لحظة عابرة، بل امتد إلى ما بعده، عندما أدى ذلك المسار إلى مؤتمر جديد انتهى باختيار الرئيس شريف شيخ أحمد عام 2009، أحد رموز الاعتدال والمصالحة، ليقود البلاد في مرحلة بالغة الحساسية.

وفي السودان، لم تتأخر جيبوتي عن أداء دورها.

 خلال سنوات الانقسام بين الحكومة السودانية بقيادة الرئيس عمر حسن البشير والمعارضة التي تزعمها الراحل الإمام الصادق المهدي، عرضت جيبوتي وساطتها، واستضافت لقاءات غير معلنة سعت من خلالها لتقريب وجهات النظر، وفتح قنوات تواصل.

ورغم تعقيدات الملف السوداني، حاولت جيبوتي دفع الأطراف نحو تسوية شاملة، وفي سنوات لاحقة، ومع تصاعد النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أعلنت جيبوتي دعمها الكامل لأي مبادرة تهدف إلى وقف إطلاق النار، بل قدمت دعمًا ماليًا ولوجستيًا لعدد من مبادرات .

في عالم يعج بالضجيج، اختارت جيبوتي أن تمشي على درب العقل. لا تبحث عن الأضواء، بل عن التأثير.

بلد صغير على الخريطة، كبير في دوره، حكيم في مواقفه، وصادق في التزامه بالقضايا الإفريقية.

 إنها مختبر للسلام، ومنصة تُصنع فيها المبادرات لا في مقار المنظمات الدولية، بل تحت ظلال أشجار عرتا، وعلى طاولات بسيطة اجتمع عليها من فرّقتهم البنادق.

من بوابة إفريقيا، ومن قلب الاستراتيجية، تظل جيبوتي عنوانًا لا يُنسى في سجل السلام الإفريقي… إنها بلد لا يطلب المجد، بل يصنعه.

 

بقلم الإعلامي / شاكر عيليه جيله