في مدينة يتنفس الناس فيها هموماً ويقتاتون على رماد الذكريات الجميلة، كانت «زينب» تجسد مفارقة غريبة في المدينـة، امرأة في العقد الثالث من عمرها، تحمل على كتفيها قصة مطلقة وأمومة مبكرة، وروحًا تتمرد على قيود المكان والزمان.

لم تكن جميلة بالمعنى التقليدي والمتعارف، قوام الممشوق، شعرها القصير يمنحانها مظهرًا جذابًا، وشفتيها الممتلئتين، واللتان بلون العناب الناضج،؛ تنطقان بوعود صامتة، فيكمن فيهما السحر والافتتان.

وفي إحدى الليالي، بينما كانت تجلس على شرفة منزل أختها، تراقب النجوم الشاحبة في سماء جيبوتي، فكرت (زينب) في ابنتها الصغيرة، وفي حياتها العبثيـة! وفي الرجال الذين مروا بحياتها كأطياف عابرة، وبالفراغ الذي يملأ قلبها.. شعرتْ بوحدة عميقة.

وحيـدة بلا معيلٌ يعيلها وطفلتها، أو سند تقوى بها على ظروف الحياة، مرّوا كالسحاب الأحمـر، أخذوا منها أكثر مما أعطوها، فدمعت عيناها... بكتْ.. تعلم أن الدموع تعبر عن ضعفها الأنثوي، وأن عليها أن تواجه هذا العالم بضعفها، وأنّ قوتها كامنة في كينونتها الضعيفـة.

وكأي أنثى تعثرتْ في تجربة حبها: عاشت ناقمة على الذكر، فحملتْ في داخلها صراعًا أبديًا؛ بين الرغبة واليأس، وبين التمرد والخضوع. بين القوة والضعف .. فتقتنص لحظات المتعة في عالم يفتقر إلى البهجة، امرأة على حافة الهاوية، علاقتها العابرة جلبت لها الكثير من المتاعب، وآلام النفس، ولكنها مغامرة! لابد منها للهروب من حياتها الكئيبة، ولتشعر بأنها حيـة وتمتلك حرية التصرف بجسدها ولو لدقائق ماتعة وإن قصرتْ لذتها، وأطالتْ أمد تعاستها.

تصيد في علاقاتها العابرة، رجالٌ متزوجون، لا تترد في أن تفصح عن رغبتها الجنسية في اول اللقاء، عن أمنيتها في القبلة أو لمسـة حانية تشعرها بنشوة خفيفة، كأنها تنتزع قطعة صغيرة من حريتها من بين براثن هذا الواقع الكئيب.

لم يكن الأمر بالنسبة لها خيانة أو رغبة في الانتقام، بل كان نوعًا من البحث عن معنى، عن شرارة حياة في عالم يخلو من الإثارة.

كانت ترى في هؤلاء الرجال ضحايا لزيجات باردة، ضحايا في علاقات تفتقر إلى الشغف. تتعرض لهم وتبادر في الآن نفسـه، تستهويهم بجرأتها الغامضة، وبنظراتها التي تعدهم بليلة من الحرية، ليلة ينسون فيها قيودهم ومسؤولياتهم.

(زينب) موظفة في مكتب مؤسسة عامة ، تقضي يومها في روتين قاتل، تحدق في الأوراق المتراكمة وفي الفراغ كأنها تنظر إلى مستقبلها الباهت أو تتحدث بصوت خافت في الهاتف، لم يكن هناك عمل حقيقي، فقط ساعات طويلة تمتد كصحراء قاحلة، وملل يلتهم روحها ببطء. تتزين أمام مرآتها الصغيرة.. غير مكترثة بما حولها.

فيراها المجتمع امرأة مريضة! وهم غير مدركين للعاصفة التي تعتمل داخلها.

 لم يفهموا رغبتها الجامحة في الحياة، وبحثها الدؤوب عن لحظات سعادة عابرة في عالم رمادي.

التدخين والقات رفيقيها في هذه الوحدة. تدخن بشراهة، تلفح وجهها بدخان سجائرها كأنه حجاب يخفي يأسها، وتخزن القات في فمها، تمضغه ببطء، تستخلص منه نشوة زائفة، بحثا عن سعادة وهروبًا مؤقتًا.. تصل إلى المكتب بعد رحلة شاقة تستغرق ساعة كاملة من منزلها الكائن في ضاحية (بلبلا) حيث تعيش مع أختها العانس وابنتها الصغيرة.. ساعة تتأمل فيها وجوه الناس الشاحبة، وبيوت المدينة المتلاصقة النحاسيـة، وتفكر في لياليها القادمة.

 تجلس على كرسيّ مكتبها المريح، تجد أوراق المعاملات مفروشـة بين يديه .. تتنهد من أعماق روحها، ورائحة سيجارة الصباح تنبعث من فيها، ومازال القات يتنفس عبر مسامات جسمها! كأنها تعلن عن تمرد صامت على هذا الروتين القاتل وعلى حياتها اللا معنى.

في هذا المبنى القديم، يقف شابٌ في طابور طويل. يبدو في الأربعينيات من عمره، يرتدي قميصا سماويا مكوي بعناية، وبنطالاً كُحلي خِيط تفصيلا له، ويليق بنحافة جسمـه، مهيب: في عينيه تلمس وقارا ورثه عن نشأته الطفولية في مدينة تجورة؛ في نظرته تحدٍ طُبع بها من حارته (أرحبا)- حيث تتشابك الممرات الضيقة- ينتظر دوره، ورائحة الأوراق القديمة تمد خيوطها إلى أنفه المفلطح.

 اقتربت منه امرأة فاتنة الجمال، وقفتْ إلى يساره تحمل في نظراتها شيئاً من التمرد والعبث. كأنها تبحث عن مغامرة عابرة تكسر رتابة أيامها، أو ربما عن انتقام مبطن من عالم ذكوري تراه ظالماً.

التقت عيناها بعيني الشاب لـ لحظة، فشعرت بنبض غريب يسري في أوصالها، كأنها وجدت ضالتها المنشودة.

رسمت ابتسامة على شفتيها.. لم تثر انتباهه؛ فاقتربتْ منه خطوة، بادرته الحديث، قائلة: الانتظار ممل؟ وابتسمت وللمرة الثانية لم يهتم.. واحتكم إلى الصمت. التفتت يمينا ويسارا، انتبهت إلى أعين الموظفين تلفها وسرتْ قشعريرة الحرج في جسمها... ولما همتْ بالمغادرة أجابها دون ينظر إليها وكأنه غير مبالٍ بوجودها : روتين المعاملات اليومية في عالمنا الثالث كله ممل.. زم شفتيه، ومسح من جبهته ما علق بها، قاطعته، عفـواً يا وسيم اسمي (زينب) مسؤولة هذا المكتب، تفضل إلى مكتبي، أنا والإدارة في خدمتك.. إنه في ذلك الممر الضيق، وأشارت إلى مكتبها.

 لم يستوعب الشاب (علي) ما يحدث، انصاع لطلبها دون تردد، طمعاً في وساطتها. تقدمته بخطوات، تبعها، تمايلها وصوت كعبها العالي استفز ذكوريته، تجاوزت ثلاثة أو أربعة ممرات ضيقة كأنها أوردة مريضٍ أرهقه المرض.. أخذت أوراقه، وطلبت له الضيافة.

بدأ يفكر، لماذا اختارتني من بين هذا الطابور، هل هي من معارف أحد أقاربي! أيعقل أن تكون صديقة زوجتي أو من أقاربها؟ لا يمكن، أعرف كل صديقات زوجتي، وأغلب أقاربها.

من هي؟ ولماذا أنا؟! سمع طقطقة حذائها تدنو، عدلت من جلسته، وقبل أن تجلس أمامه مباشرة، انحنتْ لـ تُبدي له قبسا من سحر نهديها، فجلستْ ابتسمتْ هذه المرة ابتسامة منتصر، لامست في عينها بريق أثر الانحناء.

وقالت: عشر دقائق تستلم أوراقكـ. قال لها: شكرا يا... موزموزيل (قالت له)، واستطردت: أنا أم عزباء، أربي طفلتي الوحيدة، المرأة قوية بنفسها.

 شعر أن في صوتها ألمًا ، أحدثه الفراق الأول، استمع إلى أنينها الصامت، وهي حدثته عن الحرية والتحرر من القيود الاجتماعية، بأسلوب ساحر وجذاب وبصوت عذب سلس في الظاهر (علي) الذي لم يعتد على هذا النوع من الحديث الجريء، شعر بالدهشة والارتباك، لكنه لم يستطع أن ينكر انجذابه إلى هذه المرأة الغامضة.

 تكررت اللقاءات «الصدفية» أمام المكتب، ثم امتدت إلى مقهى قريب، حيث كانت (زينب) تقص عليـه حكايات عن أسفارها وحبها للقراءة والقهوة، بأسلوب يجمع بين الإثارة واللامبالاة.

 كانت كلماتها بمثابة سم يسري في عروق (علي)، يوقظ فيه رغبات مكبوتة، ويشكك في قناعاته الراسخة كرجل متزوج وأبٌ.

 (علي) لم يفهم ما يجري في عقله. وجد نفسه يفكر في (زينب) باستمرار، يتوق إلى لقائها، يشعر بتيار يجرفه، يسحبه نحو المجهول، يفسر نظراتها الحانية بأنها مداعبة صامتة، وابتسامتها وعدا جنسيا.

وهي تستمتع بهذا التحول الذي تحدثه في حياة هذا الرجل المستقيم، ترى فيه تجسيداً للمجتمع التقليدي، وتجسيدا لكل ما ترفضه من تقاليد وعادات بالية.

 في لحظة ضعف، ربما كانت لحظة يأس من رتابة الحياة أو فضول قاتل، استسلم الرجل لإغواء امرأة.

 فتعثرت نفسه في عالم جديد، عالم من اللذة المحرمة والغموض المثير، عالم يتعارض تماماً مع كل ما تربى عليه.

 أتقنت زينب فن الإغراء، واستخدمتْ جسدها كسلاح ماض، تمنح وتمنع، تخلق نشوة مؤقتة تترك خلفها فراغاً موحشاً.

وفي ليلة من ليالٍ الأنس، وبعد لقاء أحمر؛ شعر (علي) بالوخز في عقلـه، وأنّبه الضمير وأحسّ بالانفصال عن ذاته وعن مجتمعه.. ماذا فاعل (أنا)، هل هذا أنا حقا؟! اعتصر قلبه الندم. اختفى! لم تستطع الوصول إليه.. اختفى! فتركها مكسورة، وحيدة؛ يعتصر قلبها حبا؛ تعانق أشباح ماضيها القاتم المظلمة، وفي صراع مع متاهة الضياع. انتهـت

 

 الكاتب والقاص/ حمد موسي