تحتفل جمهورية جيبوتي في السابع والعشرين من يونيو من كل عام بذكرى الاستقلال الوطني، ذلك اليوم المجيد الذي استعاد فيه الشعب الجيبوتي سيادته من الاستعمار الفرنسي، وأعلن ميلاد دولة مستقلة ذات كرامة وسيادة.

 هذا اليوم ليس مجرد محطة سياسية، بل هو لحظة تاريخية فارقة، تتجدد فيها مشاعر الفخر والانتماء، وترتفع فيها الهامات شامخة في سماء المجد والحرية.

غير أن هذا الاستقلال، رغم عظمته، لم يلامس تطلعات شريحة من ابناء هذا الوطن العزيز وهم أبناء التيار الثقافي العربي، وذلك في شقه الثقافي،لأن ما تحقق عام 1977 كان استقلالًا سياسيًا في المقام الأول، أما الاستقلال الثقافي فظل غير مكتمل الأركان، حيث بقيت مؤسسات الدولة خاضعة لهيمنة اللغة والثقافة الفرنسية، وبقيت العربية –رغم كونها لغة الدين والهوية – مهمّشة، لا مكان لها في الإدارة ولا في التعليم الرسمي.

 لقد كانت العربية قبل الاستعمار لغة الحياة اليومية، ولغة التجارة والمعرفة والدين، وكانت الكتاتيب تزدهر، والمجتمع ينعم بوحدة ثقافية عميقة الجذور.

 غير أن دخول الاستعمار الفرنسي جرف هذه المنظومة، وفرض ثقافته ولغته، فصارت الفرنسية أداة للهيمنة، وصار التهميش مصير كل من لم يتقنها.

ورغم أن الدولة الوليدة بعد الاستقلال سعت إلى فتح أبواب التعاون مع العالم العربي، فانضمت إلى جامعة الدول العربية عام 1979، وتعاونت مع دول شقيقة كالسعودية، واليمن، والعراق، ومصر، لإحياء التعليم العربي، إلا أن هذه الجهود ظلّت محدودة الأثر، ولم تُنصف أبناء الثقافة العربية في الحقوق والفرص، ولا ضمّنتهم في صلب مؤسسات الدولة.

 وقد لعبت المدارس العربية دورًا كبيرًا في نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية بين أبناء الوطن، مثل المعهد الإسلامي الذي أنشأته المملكة العربية السعودية، وعدد من المدارس الأهلية العربية قديمة التأسيس ، ومدرسة الجالية اليمنية، والمدرسة العراقية، بالإضافة إلى البعثات الأزهرية المصرية.

كانت هذه المؤسسات منارات تعليمية عظيمة، خرّجت أجيالًا من الطلاب، وساهمت في الحفاظ على الهوية، غير أن حظوظ اللغة العربية في الدولة بقيت محدودة، إذ لم تُترجم تلك الجهود إلى فرص عادلة في الإدماج الرسمي، وبقيت العربية على الهامش، والشهادات الصادرة عن هذه المؤسسات غير معترف بها، وأصحابها يعانون التهميش والحرمان من حق التوظيف.

 لكن الأمل الكبير تجدد مع تولي فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيله قيادة البلاد عام 1999، حيث دخلت جيبوتي عهدًا جديدًا من العدالة الثقافية والنهضة الشاملة. لقد أدرك فخامته، بعين القائد الواعي، أن الاستقلال الحقيقي لا يكتمل إلا باستعادة الهوية، ولا يتحقق العدل ما لم يُنصف جميع مكوّنات الوطن.

وكانت المبادرة التاريخية التي أطلقها فخامته بإقرار معادلة الشهادات العربية مع الفرنسية، نقطة تحول فارقة، حررت الآلاف من قيود التهميش، وفتحت لهم أبواب الوظيفة العامة والمشاركة في خدمة الوطن.

إنها خطوة لم تكن مجرد قرار إداري، بل كانت إعلانًا بأن العربية ليست غريبة في وطنها، وأن أبناءها ليسوا أقل وطنية من غيرهم.

 ثم توالت المبادرات: دعم فخامة الرئيس التعليم العربي، وافتتحت المدارس والمراكز الدينية، وعادت الكتاتيب، وتدفقت المنح الدراسية إلى الدول العربية، وتم تعيين أصحاب الكفاءات من خريجي الجامعات العربية في المؤسسات الحكومية، وأُنشئت أقسام جامعية تُدرّس بالعربية، وبدأت هذه اللغة الأصيلة تتغلغل في شرايين الحياة العامة من جديد، على لافتات الشوارع، وفي الإعلام، وحتى في الإدارة.

 وبفضل قيادة فخامته الرشيدة، لم تعد العربية لغة الظل، بل أصبحت مكوّنًا حيًّا من مكوّنات الهوية الوطنية، ورافدًا من روافد الثقافة الجيبوتية. لقد تحققت العدالة الثقافية، وعاد لكل ذي حق حقه، فأصبحت جيبوتي نموذجًا لوطن يحتضن تنوّعه ويكرّم جميع أبنائه.

إن ما تحقق منذ عام 1999 بقيادة فخامة الرئيس السيد/ إسماعيل عمر جيله، ليس مجرد إصلاح جزئي، بل ولادة جديدة للوطن، ولغة جديدة للعدالة، ورسالة مفادها أن جيبوتي وطن الجميع، لا فرق فيه بين من تلقى علمه في الغرب أو الشرق، بين من يتحدث الفرنسية أو العربية، فالجميع أبناء هذا التراب، شركاء في بنائه، مؤتمنون على مستقبله.

ولهذا، فإن يوم الاستقلال لم يعد مجرد ذكرى لرحيل المستعمر، بل مناسبة للاحتفال ببعث الهُوية وبعث الروح، وخصوصًا عند من تم تهميشهم عقودًا، ثم أعاد لهم فخامة الرئيس مكانتهم واعتبارهم.

 إنهم يحتفلون بخروج المستعمر، ويحتفلون أكثر بخروج الظلم، وعودة لغتهم إلى الحياة، واعتراف الوطن بهم كما هم، لا كما أراد المستعمر أن يكونوا.

تحية وفاء وعرفان لفخامة الرئيس السيد/ إسماعيل عمر جيله، حامي الثقافة العربية، وصانع العدالة الوطنية، وباعث روح الاستقلال الكامل، سياسي حكيم وقائد عادل، لم يرضَ أن يبقى بعض أبناء وطنه في الظل، بل مدّ لهم يد الإنصاف، وفتح أمامهم أبواب الوطن،ليكون للجميع مكان ومكانة في قلب الدولة.

حفظ الله جيبوتي، وأدام عزها واستقرارها، وبارك في قيادتها الوطنية، وجعلها دائمًا وطنًا يتسع للجميع، ويحتفل بتنوعه، ويفخر بلغاته، ويعتز بثقافاته، ويكرّم رموزه.

 

بقلم/ أحمد الشامي