والداي وُلدا في البلدة نفسها، لكنّ دروب الحياة فرّقت بينهما صغيرَين؛ حيث غادر والدي موطنه مع عمّته إلى بلدةٍ بعيدة، حيث نشأ وتعلّم وحقق أحلامه على أرضٍ غريبة عن جذوره.

وبعد عشرين عامًا، عاد زائرًا... وهناك التقى بأمي، فأنبت القدر بينهما مودةً وزواجًا.

كان يأمل أن يأخذها معه إلى حيث يقيم ويعمل، لكنها رفضت. رفضت مرة، ومرّتين، وثلاثًا، حتى استسلم لرغبتها بالبقاء في أرضها، وتركها تعيش حيث وجدت دفءَ الانتماء.

عاد إلى عمله، وكان يزورها في كل عام، مثل عصفورٍ يعود لعشه مرة في الشتاء. رزقها الله بابنتها الأولى، ثم الثانية، ثم حملت بي... لكنّني لم أولد في ظلّ أبي، فقد اختاره الموت وأنا بعدُ جنينٌ في رحمها، وبدأت أمي منذ تلك اللحظة صراعها الصامت مع الدنيا، وحيدةً إلا من معية الله، مثقلةً بأعباء الدينا لا تملك في وجهها إلا العزيمة. واجهت أعرافًا أقسى من فقدٍ، تُجبر المرأة إن ترمّلت على أحد خيارَين: أن تتزوّج شقيق زوجها الراحل لتبقى مع أطفالها، أو تفارقهم إلى بيت أهلها. خياران ينزعان عنها إنسانيتها، ويضيّقان على قلبها الحياة.

لكن أمي، بقلبها الذي لا يعرف الخنوع، اختارت طريقًا ثالثًا... لا يُملى عليها، ولا يُصاغ باسم العادة. طريقًا بلا خارطة، محفوفًا بالمجهول، لكنه يخصّها وحدها. هربت بنا من القيود، لا تحمل معها إلا يقينًا لا يتزعزع، وطفلتين صغيرتين، وجنينًا لم يُولد بعد.

وصلت إلى مدينةٍ لا تعرف عنها شيئًا، لا فيها قريب ولا صديق، لكنها وُلدت فيها من جديد، حين أنجبتني، وقررت أن تبدأ. اشتغلت بكل ما أتيح من عملٍ شريف، حملت الأيام على كتفيها، وغزلت من التعب أملًا لا ينكسر.

وبفضل الله، ثم بإصرارها الذي لا يلين، حصلنا على الجنسية، والتحقنا بالمدارس، وبدأنا نشعر بطعم الحياة.

كنتُ طفلة حين سألتني صديقةٌ في براءة: «لماذا لا يزوركم أحد؟ أما لكم أقرباء؟» لم أُحسن الإجابة، لكن السؤال التصق بي كظلٍّ لا يفارقني، حتى عدتُ به إلى أمي ذات مساء وسألتها: «أمي، لماذا لا يزورنا أحد؟ أين أقرباؤنا؟» ابتسمت كعادتها، بحنانٍ يُشبه المطر: «بنيّتي، هل تحبين أن يكون لكِ أقرباء كُثر، ويزدحم بيتنا بالضيوف؟» هززت رأسي بحماسة الطفولة: «نعم، أمي!» قالت: «إذن، عليكِ أن تدرسي، وتكبري، وتعملي، وتبني لنا بيتًا كبيرًا... بيتنا الصغير لا يسع أحدًا، وأقرباؤنا لا يريدون أن يُثقلوا علينا، لذلك لا يأتون.»

فقلت بثقة لا تعرف الخذلان: «سأبنيه يا أمي... سأبني لنا بيتًا كبيرًا.» ومضت السنوات، وكبرتُ، وأدركتُ ما لم تقله لي أمي: في ساعات الحاجة، لا أحد يطرق بابك.

لكنّها، رغم الغياب، لم تسمح للكراهية أن تنبت في قلبي. كانت تحبب إليّ صلة الرحم، رغم أنها حُرمت منها.

كانت تزرع في قلبي المحبة، دون أن تتلقى شيئًا في المقابل. أرادت أن أكون نقية، كصفحة ماء، لا تعكّرها خيبة، ولا تسوّدها قطيعة. وهكذا، تعلّمت منها أعظم درس: أن نحبّ، لا لأنهم يستحقون، بل لأن قلوبنا تستحق أن تبقى بيضاء.

 وكان ذلك درسًا واحدًا من آلاف الدروس التي تلقيتها في مدرسةٍ لا يُمنح فيها شهادات، ولا تُقرع فيها الأجراس... بل تُكتب فيها الحياة بحبر التضحية. مدرسة والدتي، ومعلمتي الأولى.

حفظها الله لي، وأكرمني ببرّها كما يليق بعظمة قلبها. بقلم / حوّاء عيلترة عبسييه ( أم أفنان)