في صباح باكر، وبينما كانت المدينة تتثاءب على مهل، خرجت إلى الشارع أراقب الضوء الشاحب الذي يزحف بين المباني الرمادية، كأنه يتسلل خلسة ليوقظ المدينة على وقع خطوات المستعجلين.
ارتديت معطفي، ودفنت يدي في جيبي، ومضيت إلى محطة الحافلات. صعدت إلى الحافلة في طريقي المعتاد إلى العمل.
كانت الوجوه مبعثرة، شاحبة، نصف نائمة، بعضها غارق في التفكير، وبعضها يحتمي بسماعات الأذن ليعزل نفسه عن العالم.
عالم كامل من الصمت المتوتر، ذلك الصمت الذي يسبق انطلاق المحركات. جلست بجوار رجل مسن، حركته بطيئة، وصوته خافت، لكن ملامحه كانت كتابًا مفتوحًا.
عرفت من تجاعيد وجهه أنه عاش كثيرًا، رأى أكثر مما تقول عيناه، وخبأ في صدره من القصص ما يملأ دفاتر لا تنتهي. بدأنا نتبادل أطراف الحديث. حديثٌ دافئ في برد الصباح، عن أشغال الدنيا، عن هموم العيش، عن الأحلام التي تتآكل تحت ثقل الواجبات.
كان يتكلم ببطء، وكأنه يختار كلماته كما يختار المرء خرزات مسبحته. وفي محطة تالية، صعدت فتاة في مقتبل العمر، في ريعان الشباب، ملفوفة بوشاح ناعم، تتقد حيوية، وعينان تبرقان بفضول العالم. لكنها لفت الانتباه بعطرها الفوّاح.
رائحة جميلة، لكنها لم تكن مجرد رائحة عادية، بل كانت كأنها توقظ شيئًا قديمًا. لاحظتُ كيف غيّرت تلك الرائحة ملامح المسن.
شرد فجأة، غامت عيناه، وكأنه يرى صورة أخرى خلف نافذة الحافلة. سألته بلطف: > «هل تشعر بخير؟» أجابني بعد صمت ثقيل، وصوته يحمل رجفة خافتة: «هذا العطر... يعيدني إليها.» نظرت إليه، فأومأ بابتسامة حزينة، كأنها تستأذن لتنكشف. وبدأ يحكي، بصوت مبحوح: «كنت شابًا يومًا. كانت هناك فتاة جميلة، أحببتها بصدق نادر. كانت تستخدم هذا العطر نفسه، كأنه كان توقيعها، بصمتها التي لا تخطئها ذاكرتي. كنا نتواعد سرًا، نرسم أحلامنا بحذر الأطفال، لكننا كنا نعرف أن الواقع لم يكن في صفنا.» توقف قليلًا، ابتلع ريقه بصعوبة، ثم تابع: > «اختلفت قبائلنا، رغم أننا أبناء قومية واحدة، نتحدث اللغة نفسها، نصلي في القبلة ذاتها.
لكنهم لم يسمحوا بزواجنا. كانوا يروننا فئتين لا تليق إحداهما بالأخرى.
حرمونا من الزواج، من بناء بيت يجمعنا. لم يسمحوا لنا حتى أن نكون شهودًا في محاكمهم، أو أن نجلس في مجالسهم.» ثم أسند رأسه إلى النافذة، كأن الجدار البارد يخفف شيئًا من وجعه، وأضاف بنبرة كسيرة: > «أحببنا في ظروف ظالمة، ظروف حرمتنا من أبسط حقوقنا، وأجبرتنا أن نكتم مشاعرنا في قلوبنا داخل الصدور.
وقهرونا باسم التقاليد، وأعدموا حبنا باسم شرف قبلي أحمق.» سكت قليلًا، وقد ظننت أنه أنهى حكايته.
لكنه زفر زفرة طويلة، ثم واصل، صوته يزداد وجعًا: > «لكنه لم أكن وحدي من عانى. كانت هي الأخرى ضحية ظلم لا يقل قسوة. خُيّرت بين أهلها وحبيبها، فاختارت أهلها مكرهة، خائفة من مصير لا ترحمه قبيلتها. ومع ذلك، ظلت مقهورة حتى آخر يوم في حياتها. رفضت كل من تقدّم لها بعدي، رغم جاههم ومالهم.
أرادت أن تموت وهي تحمل في قلبها حبنا كحبل لا ينقطع. ماتت عانسًا لكنها مخلصة لذاك العهد القديم.» توقف صوته. خيّم الصمت في تلك اللحظة على مقعدنا الصغير في الحافلة، لكن في داخلي كانت ضوضاء من الأسئلة والحزن.
كم من العطور تحمل في ذراتها الذاكرة؟ كم من الوجوه توقظ فينا قصصًا خلناها دفنت؟ كم من المسافات المقطوعة في صمت، تختبئ فيها قصص حب محرّم، وحزن مقموع، وظلم اجتماعي لم يجد من يصرخ في وجهه؟ رحت أراقب الفتاة الجالسة في مقدمة الحافلة.
كانت منشغلة بهاتفها، غافلة عن أنها أيقظت قصة عمر بأكملها. لم تكن تعرف أنها بصمتها الهادئ أخرجت من ذاكرة رجل غريب تاريخًا موجوعًا، كُتب بالحبر والدمع والخذلان. في تلك اللحظة، أدركت أن الحافلة لم تكن مجرد وسيلة نقل.
كانت مسرحًا اعترافيًا، مقعدًا للاعتراف الأخير. شاهدًا على تاريخ خفي، على ظلمٍ يتوارثه الناس جيلًا بعد جيل دون أن يراجعوه. أدركتُ أن قلوب كبار السن ليست مجرد عضلة تتعب.
هي مكتبة كاملة، تفيض بالحكايات، بعضها جميل وبعضها يوجع كالسياط. وأن عطرًا بسيطًا، قد يفتح أبوابها المغلقة على مصراعيها. حين نزلت من الحافلة في محطتي، شعرت أني تركت وراء ظهري أكثر من راكب. تركت قلبًا لم يزل نابضًا باسمٍ واحد، وقصةً ماتت مرتين: مرة بالرفض، ومرة بالنسيان.
وفي الطريق إلى عملي، ظل صوت ذلك الرجل يتردّد في أذني كوصية: > «لا تسمح أن يُقتل حبٌ آخر باسم القبيلة.
أخبرهم بما حدث لنا، لعلهم يتراجعون عن قسوتهم.» ولأول مرة، أدركت أن مهمة الكاتب ليست فقط أن يروي. بل أن يشهد، وأن ينحاز للإنسان ضد كل ظلم مقنن، وأن يحفظ في سطوره حكايات لم ينصفها زمنها. بقلم /شاكر عيليه جيله