المال كل شيء في الحياة كثيرا ما تتردد هذه العبارة في عالم المادة، ويزعم مستحلّوها أنها حقيقة لا تقبل الشك، وأن المال هو الوحيد الذي سيحقق لهم كل شيء. قد يزداد عمق هذه الفكرة عند الفرد حين يرى زيادة تكاليف الحياة يوما بعد يوم بشكل متعاقب ومخيف، مما يجعل فكره وحديثه كله حول البحث عن قوت يومه فقط. ومن الممكن أن يكون هذا الأمر عند بعض السياسيين في العالم العربي والإسلامي مقصودا ومصنعا، وهو ما يسمى بصناعة الفقر، حتى لا يفكر الإنسان إلا بقوته وقوت عياله. إن هذه العبارة قد تكون غير صحيحة، خاصة في الحياة الإدارية، فعنصر المادة يجب أن يكون آخر شيء نفكر به في عالم الإدارة. فهناك خطوات كثيرة في إدارة المشاريع لا تكلفك كمدير ولا تتطلب منك مالاً، نذكر منها مثلا الأمور التالية: - إن ما يسمى في علم الإدارة بدراسة الجدوى وتقييم المشروعات، والتي تمثل الخطوة الأولى أو اللبنة الأساسية في أي مشروع - تجاريا كان أو خدميا - قد لا تكلف صاحبها كثيراً، خاصة إذا كان هو نفسه القائم بالدراسة. علما أن هناك مؤسسات تدعي الخصوصية بالقيام بمثل هذه الدراسات مقابل أموال قد تكلف صاحب المشروع، والتي قد تجعله يتوقف عن المشروع في بدايته لأن دراسته مكلفة كثيرا. ونحن نؤكد هنا أن مثل هذه الدراسات يمكن لصاحب المشروع القيام بها دون اللجوء إلى مثل هذه المؤسسات، خاصة إذا كانت ظروفه المادية لا تسمح له بذلك، وبإمكانه أن يجد خطوات معينة من كتب التخصص وما عليه إلا التطبيق. - كذلك، إن وضع خطة إستراتيجية واضحة ومفصلة حول أي مشروع لا تكلف صاحبها أي شيء مادام هو واضعها. بل إن الوظائف الإدارية كلها لا تستوجب في حقيقتها شيئا من الأموال، وكل ما يطلبه المدير أو المسؤول من أموال في سبيل القيام بتلك الوظائف قد تكون لأغراض أخرى يعرفها الكثير من الناس. يعلم الجميع أن العمل بالعقل قبل العمل بالمال، وحتى في مقاصد الشريعة فإن حفظ العقل قبل حفظ المال. والإدارة تعتمد على العقل قبل اعتمادها على المال، ولا أدري لماذا نقدم المال على العقل عندما نستلم مهام إدارية معينة. نعم، إن المال، وحتى نستطيع تحقيق أهدافنا الإدارية، يمثل ضرورة في كل ناحية من النواحي الإدارية، ولكن يجب أن لا يكون عقبة أمامنا بحيث لا نتحرك إلا بالمال. إنني أستغرب كثيرا الطالب الذي يتخرج من الثانوية ثم يقعد في بيته لأن ظروفه المادية لم تسمح له الالتحاق بأي جامعة. ولو سألنا أنفسنا هنا سؤالا: هل البحث أو التواصل مع الجامعات عبر النت مثلا أو عبر الأصدقاء الموجودين في الخارج للحصول على قبول مبدئي على الأقل من أي جامعة يكلف؟ هل البحث مثلا عن منظمات أو جهات خيرية قد تتكفل بالطالب يكلف أيضا؟ كم من الشباب نعرفهم هنا في جيبوتي وقد سافروا إلى السودان مثلا وليس معهم حتى قبول مبدئي، متوكلين على ربهم، بعدما عزموا وتيقنوا، ونعم المتوكل عليه، وهم اليوم من حملة شهادات عليا. كم من الشباب أيضا أجروا مقابلات في الجامعات السعودية ونالوا بغيتهم والتحقوا هناك بأفضل الجامعات... هل من خطوة تكلف كثيرا في كل ما قلناه؟ مرة أخرى، ليس المال كل شيء في هذه الحياة وليس كل الإدارة. التجسس على العاملين يتعذر كثير من المدراء، وخاصة البدائيون منهم، بأن التجسس على العاملين أهم وسيلة من وسائل تقييم الأداء، وهذا الاعتقاد غير صحيح، ودليل على افتقار صاحبها لعلم الإدارة. نعم، إنها قد تكون وسيلة لجمع المعلومات في مجالات معينة في علم الإدارة، مثل جمع المعلومات عن المنافسين، لكنها دخيلة في مجال إدارة الموارد البشرية. بمعنى آخر، هي وسيلة يمكن استخدامها لجمع المعلومات عن البيئة الخارجية، لكن لا يستخدمها في البيئة الداخلية، وخاصة على الموظفين، إلا الغرباء أو الدخلاء في مجال الإدارة. قبل أن نفكر بالوسيلة، علينا أن نعرف المعايير التي ننطلق منها ونبني عليها التقييم. إن كتب إدارة الموارد البشرية كثيرا ما تطرقت وبصورة واضحة إلى معايير تقييم أداء العاملين، وأغلب هذه المعايير تكون على ثلاثة أنواع: - معايير مخرجات الأداء الفعلية: ويسمى أيضا بالمعايير الموضوعية، ومنها كمية إنتاج العامل، أي عدد الوحدات التي ينتجها أو يقدمها للعميل، سواء كانت سلعة أو خدمة. ومنها أيضا مستوى الجودة التي يجب على العامل الالتزام بها وفق معايير الجودة. - المعايير السلوكية: وتمثل مدى التزامه بمواعيد العمل، وقدرته على معالجة شكاوى العملاء، وتعاونه مع المسؤولين وزملاء العمل والرؤساء. - معايير الصفات الشخصية: مثل الصدق في مجال العمل مع الرؤساء والمرؤوسين والعملاء، وكذلك الموضوعية والمبادرة والابتكار. اختصارا، تلك هي معايير تقييم الموظفين في أي مؤسسة عامة كانت أو خاصة، وهي معايير كافية لتحقيق الغرض، وقد تختلف قليلا من مؤسسة إلى أخرى حسب طبيعتها ومجال عملها. وقبل تقييم العامل وفق هذه المعايير، على المؤسسة أن توفر له بيئة ومناخا تنظيميا ملائما. أما الوسائل أو الطرق المستخدمة لجمع هذه المعلومات فهي كثيرة، ويمكن للقارئ الرجوع إلى كتب إدارة الأفراد، ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالتجسس عليهم. والتقييم عملية لا تكون إلا مرة أو مرتين في السنة، أما القيام بها كل يوم وبطريقة مكشوفة يأنف من استعمالها أقل الجواسيس خبرة في العالم، مثل: التجسس على العاملين عبر أشخاص آخرين أو السؤال عنهم أو مباغتهم أثناء العمل، أو بأي طريقة أخرى بعيدة عن تلك المعايير والوسائل، فهذا الذي ليس من الإدارة ولا صلة له بها. التجسس على الموظفين يعتبر انتهاكا لخصوصيتهم، ولا محال أنه يؤدي إلى تدمير الثقة بينهم وبين الإدارة. وعلى المدير أن لا يفكر بالعقلية التي تحفر للموظفين أو تريد الإيقاع بهم أو توريطهم في أمر ما، إذا كان يرغب في تحسين أدائهم... عليه أن يكون أبا رحيما للجميع ويتصف بالصفة الأبوية التي هي من أسرار نجاح الإدارة اليابانية في العصر الحديث. بقلم د. عثمان فريد، أستاذ جامعي في الإدارة