استغلال الحاجة كنت يومًا في مكتب صغير للخدمات العقارية، والمكتب كان حينها تحت التأسيس ولم يفتح أبوابه بعد. المهم ما أثار انتباهي هو أن صاحب المشروع كان يسأل عن موظف يعمل لديه، بشرط أن يكون متعدد اللغات، على الأقل يجيد اللغات الثلاثة: الفرنسية، العربية، الإنجليزية، إضافة إلى شروط أخرى مثل أن يكون قادرًا على إدارة المشروع.

قلت له: كم راتبه؟ فذكر لي أنه في حدود ثلاثين إلى أربعين ألف فرنك. قلت لنفسي: «أحشفًا وسوء كيله» يريد منه إجادة أكثر من لغة وراتبه 200 دولار تقريبًا.

ثم قلت لنفسي مرة أخرى: أكيد سيجد صاحب هذا المشروع الذي يريده، وبالمواصفات التي يريدها، لأن حاجة الشباب اليوم للعمل كحاجة الإنسان له أيام سيادة النظرية الكلاسيكية، التي كانت تفرض شروطها المجحفة على العمال مستغلة حاجتهم للعمل.

في النهاية قلت له محاورًا معه: أنت لست شركة وول مارت الأمريكية، ولا شركة سكك الحديد الهندية، ولا مؤسسة البترول الوطنية الصينية... حيث تعتبر هذه الشركات وغيرها من أكبر الشركات في العالم، سواء من حيث الإيرادات أو من حيث عدد الموظفين فيها.

إن مشروعك هذا عبارة عن غرفة لا تتعدى مساحتها 4 أمتار، فلا تجعل الحبة قبة، واعرف قدر مشروعك، وخليك من هذه الشروط التعجيزية.

 علينا أن نعرف أن المميزات المطلوبة من الموظف المتقدم للوظيفة ترتبط ارتباطًا قويا بطبيعة ونوعية المهام المطلوبة منه.

فتعدد اللغات مثلاً قد يكون مطلوبًا في وظائف معينة وليس كل الوظائف. وفيما يتعلق بالجانب الإداري، ليس شرطًا أن تبحث عن إنسان أحاط بقواعد علم الإدارة أو نظرياته، ووظائف الإدارة فطرية أكثر ما تكون مكتسبة.

فلم يكن هناك قديمًا أو حديثًا إنسان عاش دون أن يعرف كيف ينظم أو يخطط ولو لحياته الخاصة على الأقل.

فمن المؤكد أن هذه المبادئ أو القواعد وجدت مع وجود الإنسان في هذه الحياة. وأهم شيء في الإدارة هو القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والقدرة على التعامل مع الآخرين. ولهذا ليس من الإدارة أن تتصفح على صفحات الإنترنت ثم تضع لمن يتقدم لمشروعك البسيط للعمل فيه شروطًا وضعتها شركة كبيرة للمتقدمين لها.

 من ناحية أخرى، الشروط المطلوبة من المتقدم للوظيفة قد تمتد وتتسع، كما يمتد الهيكل التنظيمي في أي شركة، من البسيط إلى متعدد الأقسام.

أما أن تضع أمام المتقدم للعمل بمثل هذه الشروط التعجيزية، بغض النظر عن المهام التي تنتظره أو عن حجم المشروع الذي يعمل فيه، هذه الشروط التي يعانيها اليوم كل الشباب المتخرجين من الجامعات، فهذا كمثل من تبنى الهيكل التنظيمي متعدد الأقسام بدل الهيكل التنظيمي البسيط مع أن مشروعه عبارة عن نافذة صغيرة.

وهذا الذي ليس من الإدارة.

 

 أجور ساعات العمل

 نعني بالأجور هنا الأجور المباشرة التي يحصل عليها الموظف من العمل في صورة نقدية، مثل: الراتب النقدي، الحوافز بأنواعها، تحسين ظروف المعيشة... كما تشمل أيضًا الأجور غير المباشرة مثل: المعاش، التأمين الصحي، برامج الموازنة بين العمل، وكل متطلبات الحياة.... إلخ. على المؤسسة أن تحدد الأسس التي يبنى عليها نظام الأجور والرواتب. فالموظف الذي يتقاضى تعويضاته على أساس شهري يصنف على أنه موظف رسمي، ومن حقه الأجر المباشر وغير المباشر.

أما موظف الساعات فهو يتقاضى تعويضاته على عدد الساعات التي يعملها، أو على أساس عدد الوحدات التي ينتجها خاصة إذا كانت الشركة صناعية، ومن حقه الأجر المباشر فقط حسب ما جرت عليه العادة الإدارية.

بعض المؤسسات عندنا لا يتلقى الموظف بساعات العمل – غير الرسمي - الأجر النقدي، فضلاً عن حوافز أخرى. قد يتأخر الراتب في بدايته عن الموظف الرسمي بسبب الإجراءات القانونية، أما أن يتأخر الأجر عن الموظف غير الرسمي الذي يدفع من صندوق المؤسسة، ولا يحتاج إلى إجراءات قانونية، فهذا الذي ليس من الإدارة.

كنت أعمل مرة قبل عدة سنوات في مؤسسة ما بنظام ساعات العمل، وأذكر أن الحول وزيادة كان يحول علي أحيانًا دون أن أقبض أي أجر، مقابل جهدي الذي كنت أعتبره جبارًا.

 لا أعني هنا أنني عملت بدون أجر، ما أعنيه فقط هو تأخره الفاحش ووصوله في وقت غير وقته. وإذا سألت المعنيين قيل لي هذا هو نظام المؤسسة، وكنت أقول: هذا ليس من الإدارة.

هذا كله في وقت كنت أعطي محاضرات للطلاب في الكلية، حيث كنت أدرّسهم آخر نظريات في الأجور، النظريات التي تعطي موظف الساعات مميزات أخرى فضلاً عن تأخر أجره، مثل: الإجازات المدفوعة، والإجازات المرضية... فالتصنيف حسب هذه النظريات بين الموظفين رسميين أو غير رسميين هو تصنيف حسب ساعات العمل فقط، أما حسب الراتب أو الأجر فقد قلّ التصنيف بشكل كبير.

 بل كنت أتحمس أحيانًا أثناء المحاضرة، كنت أقول إن الإدارة في الإسلام أفضل وأدق بكثير من ذلك كله، فهي تعطي الأجير أجره قبل أن يجف عرقه.

 ومن ناحية أخرى كنت أشفق على الطلاب، وأوازن بين ما يتلقونه من علم نظريًا في الكلية، وما ينتظرهم غدًا في الواقع العملي.

كيف يكون الحال وماذا يقولون لو أن مدراء مؤسساتنا اليوم طلب منهم موظفو الساعات إجازات مدفوعة الأجر لأن هذا من حقهم؟

 

 بقلم د. عثمان فريد، أستاذ جامعي في الإدارة