ذات مساء ذهبت مع أسرتي في زيارة عائلية إلى بيت شقيقة زوجتي في حي إنجيلا، بعد إلحاح متكرر من ابني البكر الذي اشتاق للعب مع أبناء خالته، نزولا إلى رغبته القوية المفعمة ببراءة الطفولة، حتى لا تنكسر إرادته أمام شدت أمه الصارمة في قراراتها عكسي تماما في كل أمر، استطعت بعد ملاطفات عدة أن أنتزع منها قبول الزيارة من أجل خاطر الطفل حتى قبلت على مضض، كانت المفاجئة أننا حينما قاربنا بيت شقيقة زوجتي وجدنا جموع حاشدة قرب بيتها، ركنت السيارة ونزلنا مسرعين، لمعرفة ما يحدث وعند اقترابنا للبيت أدركنا أن الأمر بسيط، ما هو إلا نزاع بين الاثنين من الجيران ، لم أعر أي اهتمام لهذه المناوشات التي تحصل غالبا بين الاثنين في كل مكان، لفت نظري فتاة جامحة فقدت أعصابها، وهي تصيح و تهذي بألفاظ شنيعة تقشعر الابدان لسماعها، بينما هي تقوم بمحاولات يائسة تلو الأخرى للتحرر من قبضة رجل وامرأة متشبثين بها بقوة من الإفلات من أيديهما...
ما أحمله في أحشائي أيها النذل هو جزء منك ليتك كنت رجلا، ما أنت سوى مخنث تخال نفسك رجل، ذكورتك المفرطة يا سكير نتاج خلل خلقي اتف عليك يا عفن، كم انا نادم علي مشاركتي الفراش مع جحش مثلك لا تتجاوز رجولته مساحة الفراش ، مسكت يد الطفل بسرعة وأدخلته البيت حتى لا يسمع هذه الألفاظ الشنيعة.
اقتربت بضع خطوات إلى المكان لأستمع إلى البلاغة المفعمة بالبذاءة العجيبة في الشتيمة، وجدتني انجذب لمعرفة القصة أكثر وإن كانت تعاف النفس سماعها، تناهى إلى سمعي بين تقاطع صياحها صوت رخيم خافت متقطع من داخل بيت مغلق، محكم من الخارج عرفت انه صوت حبيبها المحبوس في الداخل حفاظا على سلامته، من أن تهجم عليه خليلته التي فقدت السيطرة على أعصابها، بصعوبة متناهية وصلت إلى سمعي جملة تغلب عليه الحشرجة، تعبت والله تعبت انا زهقان يا ناس قالها بالسوقية ..
حينها أدركت أن للقصة خيوطا مخفية تلتقي فيها مواقف محرجة وأخرى مثيرة، هممت بفضول صحفي أن اسأل أحد الواقفين سبب النزاع غير أنني عدلت عن الفكرة، و ذلك لخبرتي في مثل هذه القصص، التريث أفضل لإيجاد الخيوط، تقدمت خطوة نحو المحتشدين حول الفتاة التي فقدت أعصابها ..
يجب أن نتصل بالشرطة، الشرطة وحدها القادرة على كبح جماح هذه المجنونة، قال احد الموجودين، حينما يئس عن تهدئة الفتاة عن بعد دون المشاركة ، التفتت الفتاة فجأة إلى ناحية الصوت، ورمته بنظرة تحدي واضحة، كأنها عاينته مسبقا من بين الحضور، لأدري حتى كيف انتبهت إلى كلامه رغم بعد المسافة بينهما وسط أصوات مزعجة إلى هذه الدرجة، مسافة الرجل أقرب منها إلي، فجأة ندت منها ضحكة غير عادية ضحكة مجلجلة، مجنونة بكل معنى الكلمة، قلت في نفسي يا إلهي ربما اعترى المسكينة شيء من الخبل، سكتت برهة وأخذت نفسا عميقا وهي لا تزال ترمقه بتلك النظرة الشريرة، قلت في نفسي هدوء يسبق العاصمة، واصلت الفتاة كلامها بنبرة أخف من الصياح بما يشبه العتاب والسخط في آن واحد، وقالت: بمزيج من الحسرة والضحك أنت من يقول هذا يا محمود !!! لم أكن أعتقد أن هذا توقيت مناسب لتصفية الحسابات بيننا، فليكن ما تريد، ولكن اعلم أنك أخطأت التوقيت يا صديقي، دفعتك الغيرة إلى مشكلة كنت في غنى عنها، اسمع أيها السكير، الحقير، التافه، ناقص الرجولة، أنسيت البارحة كيف كنت؟ كنت تبكي تترجاني، تجلس أكثر من ثلاث ساعات أمام بيتي، دون أن تشعر لسعات البعوض كل ذلك لتصنح لك فرصة للتحدث معي، وأنت في حالة يرثى لها، وقتها أشفقت عليك وعز على قلبي هوان رجل كبير السن بهذه الطريقة، خرجت من بيتي و أنا أستمع إلى هذيانك وبكائك مثل الطفل، وأنت تحت تأثير الكحل تترجاني تعرض علي أن أكون خليلتك في السر، وتحلف باليمين انك ستترك زوجتك وأطفالك إن أنا قبلت عرضك، وتخليت عن سمير، حينها قمت وأغلقت الباب دونك، وتركتك تبكي و تندب حظك السيئ، هذا هو الجانب الأسود المخفي للحاج محمود يا جماعة ، فليسمع الجميع وليس لدي سمعة طيبة أخسرها بعد الآن ههههههه وتابعت تقول: لوكنت في مكانك يا وقح لاختبأت في بيتي، بدل أن أحشر أنفي في مشكلة لا تعنيني، اندهش الجميع بين مصدق وغير مصدق، توالت الهمسات والغمزات بين المحتشدين، التفت أنا إلى مكان الرجل فلم أره بعد ذالك، وكأن الأرض ابتلعته، ابتعدت مسرعا من وسط الجموع وأنا متقزز مما سمعت ..
في جلست القهوة سردت لنا شقيقة زوجتي قصة الفتاة الجامحة، وهي حكائة بارعة قالت : الفتاة تدعى إلهان ، تسكن حاليا الحي انجلا يفصلنا شارع عن بيتها كما سمعت، ظهرت في حياة سمير بعد طلاقه لزوجته تقريبا قبل عام ، وهي الآن حبيبته. فسمير وحيد والديه أمه كانت تعاني من سكري ورومنتزيوم، أما أبوه لم يكن أحسن حالا من والدته، طريح الفراش يعاني من الشلل النصفي ، كان سمير متزوج من بنت خالته رزق منها ثلاثة أطفال طفلتين وولد، وهي امرأة صالحة طيبة خلوقة حلوة المعشر كانت تجمعنا صداقة، في السنوات الأخيرة فجأة تغير سمير أصبح شخصا آخر ، بدأ يتعاطى المخدرات، غالبا ما كان يبيت خارج المنزل ، وإذا رجع من سهرته ، دائما ما كان يفتعل المشاكل يتخانق مع زوجته، حدث في احد الليالي أن تشاجر سمير مع زوجته الحامل حتى أجهدت الجنين، بسبب الضرب المبرح الذي تعرضت له وهي في الشهر الرابع من الحمل، تدخلت ابنته البكر وهي تحاول إبعاد والدها عن أمها، وضربها هي الأخرى حتى تكسر ذراع الطفلة، على إثر هذا الحادث فقدت الزوجة المسكينة الكثير من الدم. بعد هذا الحادث الأليم هربت الأم بأطفالها إلى بيت عائلتها خوفا على حياة أطفالها، وخاضت إجراءات الطلاق بمساعدة الأهل حتى تطلقت منه، كان هذا قبل شهر من ظهور خليلته المجنونة على حياته، مع الأيام زادت حالة سمير سوءا من سيئ إلى أسوء، طرد من عمله بسبب الغياب المتكرر أصبح عكر المزاج، حاد الطبع ، شديد التجهم، صحته تدهورت إلى حد كبير، وخسر الكثير من وزنه، ما زاد من ضياعه هو موت والديه الذين لحقا بعدهما خلال أسبوع واحد، أعتقد أن والدا سمير ماتا قهرا وكمدا على حاله، وما آلت إليه حياته بسبب الصدمة على رحيل والديه أصيب بالسكري والضغط، أما عراكه مع خليلته هذا ليس وليد ساعة، دائما ما يتشاجران، منذ ظهورها معه بعد طلاق زوجته، حتى أصبحوا حديث الساعة ، أما عنصر المفاجئة هنا أن الفتاة تدعي أنها حامل منه كما سمعت، وهي الآن تطلب منه عقد القران عليها، وهو ما يرفضه سمير من الأساس، لا تسمح له الظروف ولا الصحة، لذلك نحن الجيران أغلقنا الباب دونها، فخليلته الجامحة تقسم أنها لن تتركه يهنأ في عيشه حتى تنتقم منه لنفسها، وتابعت تقول: اعتقد ان سمير يجني اليوم ما حصده ..
أردت أن أسأل عن الكهل محمود وما سمعت من الفتاة الجامحة، تريثت وقلت في نفسي طبيعي كل هذا يحصل في الزوايا وأجنحة الظلام، الليل أم حنون يخفي في طياته فضائح يندى لها الجبين، من أن تصل إليه تلابيب النهار الفاضح.
محمد عتبان