لقد كان لقاؤهما في ذلك المقهى الكئيب، بداية لصراع الحقيقة مع الوهم، الثبات مع قوة الإغواء، وكنهاية ذاتٍ زائفة أمام قوة جامحة للقيم.. تركته هائماً في متاهة التساؤلات، يصارع أشباح الماضي محاولا أن يعود إلى ذاته الأصيلة. قام من مقعده مترنحًا، مُثقل بالتساؤلات... وجسده المنهكـ لا يكاد يحمله. (1) يسافر من قريته – في منتصف موسم الأمطار من كل عام- محملاً بـ مخاوفه وعلى كتفه (العُكة)، يستغرق وصوله إلى قلب المدينة (6) وقد تزيد .. ينزل واديا.. يُسرع خطواته بين أحجارها، يتعثر تجرح رجله أو طرف إصبعه ويسيل دما، يربطها بقطعة قماش قطعها من معوزه القصير المهترئ… ساعات على الرمال يمشي غير واثق من الخطى، يسد طريقه جبلٌ شاهقٌ؛ فيصعده وعينُه على العكة وفي عقله رغبات أسرته:- «بابا ما تنسى بسكويت (أبو ولد)» «بابا معوزي مهترئ ومصفر، وحذائي لم تشتريه لي منذ سنة..» ارتسمتْ على وجهه ابتسامة عريضة وفاترة، وأنفاسه تتسارع وتثقل صدره مع خطوة صعوده الجبل، فـتذكر زوجته قد أوصته بـ (حنة سوداء) وأباه الشيخ أمره بعلبة كبريت وكيلو (ديمباكو) أي التبغ.. قال بنبرة هامسة محدقا بالعكة: أكل هذه الطلبات والأمنيات معقودة بما في جوفكـ.. وصل إلى قمة الجبل وقدماه متورمتان ومازال قطرات من دمه تسرق خطاها إلى الأرض من الخرقة البالية، والعرق يسيل عبر تجاعيد وجهه... نسي كل الطلبات والرغبات.. تسطح على ظهره متوسداً جحرا من أحجار (ويعيما). (2) من ضِرعBiqiida) (الدلو)، ومنها إلى القِربة (...) يتجول بائع السمن الطبيعي في المدينة مرددا ومرتلاً أحيانا: من ضرع (بعيدا) إلى قِربة، ومن القربة (عُكّاس) ومن (...) فيسوق لبضاعتـه التقليدية، وهي مهنـة ورثها عن أجداده. يرتدي (بائع السمن) قميصا مرقعا بـ خمسٍ أو سبع رقع، باهت اللون من الغسيل المتكرر والشمس، ومعوزا إلى فوق الركبة؛ ليس أحسن حالا عن أخيه القميص، ينتعل حذاء من جلد البقر: أهلكه العصى والحجر، فتعاقب عليه الزمن. مُغبرّ الوجه، متربٌ الساقين، ضعيف البينية، متين العزيمـة: السمن.. السمن: من ضرع (بعيدا) إلى قِربة، ومن القربة إلى... يمر بين تلك الأبنيـة الشاهقة، ينادي بأعلى صوته .. لا يجد مشترٍ أو مهتما.. وفي اليوم التالي ارتاد أسواق الأغنياء وحام حول مقاهيهم، مسوقا لمنتجه الوطني.. فيرجع خائبا منكسرا؛ مكسور الهمة والروح، يائسًا، ناقمًا على الحياة، وكارها قاطني تلك (الفلل) و (القصور).. لاعنا مرتادوا تلك المقاهي الفاخرة والجميلة. إلا هذه الليلة! عزم أن ينزل إلى حارة الأغنياء ليلا، ويطوف بقصورها، وبين أزقتها، علّ سكانها يتبضعون ليلا وينامون نهارهم. حمل (العُكّة) على كتفـه – إناء مخصص لحفظ السمن البري- قطع كيلو مشياً، بحذائه ومعوزه البالي، يتسبب عرقا، جاب الحارة من جنوبها إلى شمالها؛ ينادي مسوقاً... لا أحد اهتم! وقف أمام مقهىً تطل على شارع مزدحم بالمحلات التجارية: المجوهرات، والساعات والملاهي...واجهتها الأمامية من الزجاج الشفاف... اتسعتْ حدقتا عيناه.. فتاة تجلس وحيدة وفي ركن منعزل، على طاولتها قنينة ماءٍ صحية، ومطفأة السيجار، شعرها منساب على كتفها كسحابة سوداء تحمل المطرَ. (3) حدّق بائع السمن في الفتاة برهة.. في عينيها الذابلتين، وإلى شفتيها اللامعتين، وجد فيهما انعكاس حقيقة المدينة الصاخبة، واستبدادها الأليم.. ساقته ساقاه المتربتان إليها دون رضاه، اقترب بحرص وببطء، ووقف عند حافة ارتداد أنفاسها... «نادى بائع السمن: سمن بلدي... من ضرع (بَعِيدا) إلى قِربة...» تسلل صوته الضعيف والمنهكـ إلى أنغام الموسيقى الهادئة التي تملأ المقهى، رفعت الفتاة رأسها وبمقدار بضع سنتيمترات.. نفثتْ دخان سيجارتها واعتلى وجهها كضباب (سيسمو) في ربيع ممطر، تلاقت عيناها في عينيه، ارتبكـ القروي وهلةً، ولكنه تنهد كمن عثر على ضالة بعد فقدٍ طويل.. لم تعكس نظرتها الاشمئزاز التي اعتادها ، نظرة حانية ولكنها باردة وفارغة في آنٍ ومعا، طالعت فيه وكأن أمامها قطعة أثاث بالية. ابتسمت ابتسامة استغرابٍ.. أشارتْ إليه، وقالتْ:- «سمن!!» وأضافت وصوتها الهادئ يبدي سخرية وغير متعمدة «لم يعد أحد يشتري السمن يا ... قال: كامل. وأكملتْ: هذا زمن الزبدة المستوردة يا كامل، كل أكلنا مستورد، هذه القهوة والفنجان وحتى الحليب مستورد. قاطعها: هذا طبيعي.. سمن صافي من بلدتنا، بل أنا صنعته بيديّ أعرف مصدره وأصله: حليبه من ضرع مواشينا، نربيها على مراعينا… أسندت الحسناء سيجارتها على منفضة، سألته والابتسامة تعلو شفتيها:- كم الكيلو؟ ثم فتحت حقيبتها... تفتحتْ اسارير وجه (كامل) فرحاً، صمت برهة، شرد ذهنه: كم أقول لها.. بكم أثمن بضاعتي هذه.. السعر الحقيقي أم أنقص قليلاً؛ إنها المشتر الأول، أم أرفع؟ فاستقر على أن يرفع قليلاً: ثلاثة آلاف فرنك جيبوتي. ثلاثة آلاف فرنكّـ (قالت متعجبة) إنه سمن طبيعي يا... (كاريرا).. (يمكنك مناداتي به) فرد عليها: اسم عفري أصيل.. وابتسم ابتسامة ممتن ورضى.. لستُ مهتمة بالسعر يا (كامل)، أخرجتْ من حقيبتها الهفانا سيجار خشبي ودفعته على الطاولة تجاهه.. أنا مهتمة بالمجهود. انقبضتْ عضلات وجهه الشاحب، عقد حاجبيه وقال (مستنكرا):- ماذا تقصدين بالمجهود!؟ أجابته (وبنبرة أكثر جدية):- ما عانيته لتصنع هذا السمن، وما عانيته لتصل المدينة وإلى هذه المقهى، وما تعانيه حتى تعود إلى ديارك... أخذت نفسا عميقا، وتابعتْ، أتدري أن ثمن كل مجهودك لا يساوي سعر سيجاري الإلكتروني هذا (رفعتْ إلى محاذاة بصره السيجار) همس - في نفسه- بائع السمن: كم هي قاسية.. أنا لا أفهم ما تقول هذه الفتاة، ألم يعد الناس بحاجة إلى السمن إلى حليب طبيعي... أنا لا أفهم. ماذا اصنع بهذه العكة! اقتحمت (كاريرا) تفكيره وقالت:- الناس لا يرغبون بالقديم، بل يبحثون عن الأسهل، لا يهتمون بالطبيعي، أنظر حولك، كلنا هاربون من الحقيقة، في هذه المقهى نشتري الوهم، بحثا عن النسيان. ضحكت ضحكة بلهاء.. وعضتْ على السيجار وسحبتْ حتى امتلأت رأتاها ... ثم نفثت الدخان وقالت:- لا نمتلك الذكريات لننسى، كهذا الدخان العالق أمامك نعيش ثوانٍ معدودة بحريتنا. اجتاح (كامل) شعور غريب، يأس أم رغبة التحرر من أعباء القرية، أم هي رغبة التحرر من العكة.. تذكر طلبات أسرته (البسكويت، المعوز، الحنة، الدخان)... تحسس العكة|القربة واضعا يده عليها، فابتسم ابتسامة باهتة وقال: شكرا... شكرا إنّ قربتي ما زالتْ ممتلئة شكرا... شكرا يا (كاريرا). ضحكت الفتاة ضحكة كشفتْ بياض سنها؛ وسألت: لم تشكرني؟! أجاب إجابة واثق:- لأنك علمتني بأنّ ما أملكه ليس للبيع ... حمل العكة على كتفه، وقام من مقعده، أومأ لها مودعاً... قرأتْ كاريرا في عينيه إصرارً وعلى قسمات وجهه تحدٍ، نادته، التفت إليها، فقالت له ناصحة:- «انسَ العُكّة... وابدأ بنفسك.» رسم على محياه ابتسامة ساخرة وقال:- يا سيدتي، لن استبدل العكة بالكأس. بقلم الكاتب والقاص/ حُمد كامل