مدخل تاريخي بين تلالها الهادئة ودفء شعبها، سطّرت مدينة عرتا الجيبوتية واحدة من أنصع صفحات المصالحة في إفريقيا المعاصرة عام 2000، وكتبت فصلاً مضيئاً في سجل التاريخ الإفريقي والعربي، باحتضانها مؤتمر المصالحة الصومالية الذي استمر لأربعة أشهر، جامعاً في خيمة واحدة آلاف الصوماليين من مختلف القبائل والتيارات من داخل الصومال والمهجر، ليضعوا معاً اللبنات الأولى لمشروع سلام طال انتظاره.

 لقد تجاوز مؤتمر عرتا كونه شأناً صومالياً داخلياً ليغدو نموذجاً يحتذى به في إدارة الأزمات الإفريقية بروحٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ أصيلة، حيث لم يكن مؤتمراً عابراً، بل مثّل نقطة تحوّل مفصلية أعادت الصومال إلى الواجهة السياسية بعد عقدٍ من الفوضى والاحتراب الداخلي، وقد جاء هذا المؤتمر بمبادرة من فخامة رئيس جمهورية جيبوتي إسماعيل عمر جيله، في أولى خطواته الدبلوماسية بعد توليه رئاسة الجمهورية، إيماناً منه بأن استقرار الصومال هو ركيزة لاستقرار جيبوتي والقرن الإفريقي بأسره.

 انطلق المؤتمر رسمياً في 2 مايو 2000 في مدينة عرتا الواقعة على بُعد 40 كيلومتراً تقريباً من العاصمة جيبوتي، بمشاركة ما يقارب 4000 صومالي من داخل الصومال وخارجها، من السياسيين والمثقفين والعلماء وزعماء العشائر، في أوسع عملية حوار وطني منذ انهيار الدولة الصومالية عام 1991.

 تجندت جيبوتي شعباً وحكومة لإنجاح هذا المؤتمر؛ فتركت الأسر الجيبوتية منازلها لاحتضان الضيوف الصوماليين طوال أربعة أشهر، ووفرت الحكومة كامل الدعم اللوجستي والإداري، في مشهد فريد جسّد قيم الأخوّة والتضامن العربي والإسلامي.

وكما قال الرئيس جيله آنذاك:»جيبوتي لا تحتضن مؤتمراً سياسياً فحسب، بل تحتضن إخوتها الصوماليين حباً وواجباً، فسلام الصومال هو سلام جيبوتي والمنطقة كلها».

أسفر مؤتمر عرتا عن تأسيس البرلمان الوطني الانتقالي المكوّن من 225 عضواً، خُصص منهم 25 مقعداً للنساء و24 للأقليات، وهي سابقة غير معهودة في الحياة السياسية الصومالية آنذاك.

 كما أُقِرَّ ميثاق وطني انتقالي نصّ على فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات، تُستعاد خلالها مؤسسات الدولة، وتُنشأ حكومة انتقالية يرأسها الرئيس عبدي قاسم صلاد حسن، الذي انتُخب لاحقاً كأول رئيس شرعي بعد عقد من الانهيار السياسي. ولم يكن الدعم الدولي بعيداً؛ فقد رحّبت الأمم المتحدة بمبادرة جيبوتي، ووجه الأمين العام في حينه كوفي عنان رسالة شكر إلى الرئيس جيله، مثمناً «جهوده المخلصة من أجل تحقيق السلام الدائم في الصومال وإعادة مؤسسات الدولة إلى عملها الطبيعي».

 في كلماته المتكررة خلال جلسات المؤتمر، عبّر الرئيس جيله عن قناعة راسخة بأن الطريق إلى استقرار القرن الإفريقي يبدأ من استقرار الصومال.

 وقد قال مخاطباً المشاركين:»ساعدوني في إعادة الصومال إلى الطريق الصحيح، وأثبتوا للعالم أن أبناء الصومال قادرون على تجاوز خلافاتهم بالسلام، لا بالبندقية».

وفي لحظة مفصلية من الحوار، حين تعثرت المفاوضات بسبب خلافات حول توزيع المقاعد، قال الرئيس جيله:»لقد أدركت أن تقسيم الكراسي أصعب من جمع القلوب، لكننا هنا لنجمع القلوب أولا»، كانت هذه الكلمات المفتاح الذي أعاد أجواء الثقة بين الوفود الصومالية، ومهّد للتوافق على الصيغة النهائية للميثاق.

الصوماليون يتحدثون عن عرتا.. لا يزال مؤتمر عرتا يحتل مكانة خاصة في ذاكرة الصوماليين، فالشاعر الراحل (يَميام) قال خلال المؤتمر عبارته الشهيرة:»لم أعد أحتفل بالاستقلال، لأن الصومال لا يزال يبحث عن استقلال من الحرب». أما السياسية (عائشة أحمد عبد الله)، التي كانت من أوائل النساء المشاركات، فقد وصفت مؤتمر عرتا بأنه «أول مرة يُفتح فيها الباب أمام المرأة الصومالية للمشاركة في صناعة القرار الوطني».

كذلك قال السياسي المخضرم عبد الله إسحاق ديرو، الذي انتُخب لاحقاً رئيساً للبرلمان الانتقالي:»عرتا لم تجمعنا فقط، بل أعادت إلينا الإحساس بوجود وطن».

وقفت المملكة العربية السعودية في طليعة الدول الداعمة لجهود المصالحة الصومالية، وساندت مؤتمر عرتا سياسياً وإنسانياً، إدراكاً منها لأهمية استقرار الصومال في أمن البحر الأحمر والمنطقة بأكملها، كما دعمت جمهورية مصر العربية ودول أخرى هذه الجهود المباركة التي احتضنتها جيبوتي في لحظة نادرة من التاريخ الإفريقي الحديث.

بعد خمسة وعشرين عاماً، ما زال مؤتمر عرتا يُستشهد به بوصفه النموذج الأبرز للمصالحة العربية الإفريقية التي قامت على الإرادة الصادقة والعمل الأخوي الجماعي.

ورغم أن الطريق أمام الصومال لا يزال طويلاً، فإن عرتا مثّلت لحظة استثنائية أثبتت أن الحوار، حين يقوده الإخلاص، يمكن أن يصنع المعجزات.

لقد أسّس مؤتمر عرتا لثقافة سياسية جديدة تقوم على التمثيل الوطني، وفتح الباب أمام تطور الحياة الدستورية، والانتخابات الديمقراطية، وبناء المؤسسات الشرعية التي تمضي اليوم بخطى ثابتة نحو المستقبل.

ويبقى مؤتمر عرتا عام 2000 شاهداً على أن الدبلوماسية القائمة على القيم، قادر على أن يُعيد للأمم سلامها، وللأخوة معناها الحقيقي.

 لقد آمنت جيبوتي، بقيادة الرئيس إسماعيل عمر جيله، أن أمن الصومال هو أمنها، وأن السلام مسؤولية جماعية.

وهكذا، ستظل تجربة عرتا مثالاً حياً على أن الإرادة السياسية الصادقة، حين تتسلّح بالإخلاص والإيمان بوحدة المصير، قادرة على أن تُعيد للأمم توازنها، وللأخوّة معناها الإنساني الأسمى. «نسأل الله أن يحفظ أوطاننا، ويعمّ السلام أرجاء المعمورة».

 

ضياء الدين سعيد با مخرمة – سفير جيبوتي لدى المملكة العربية السعودية