تاريخ القرن الإفريقي شاهدٌ على سنواتٍ ثقيلة أطفأت القناديل في عيون الصوماليين. الخراب جرى في الشوارع كأنّه سيول غضب لا تريد التوقف. أصوات الرصاص صارت موسيقى قاتمة، والبيوت المهدمة روايات عن عائلات تفرّقت وطرقات فقدت أسماءها. دولة الصومال عاشت انهياراً يُدمي القلب منذ بداية التسعينات، فغابت المؤسسات، وتوقف النظام، وتحوّلت الأرض إلى ساحات نزاع تتقاسمها الفصائل والمصالح. شعبٌ كان يغنّي في أسواق مقديشو قبل أعوام معدودة وجد نفسه يقتات الخوف وينام على أصوات فرق الموت. أحلام جيل كامل كادت أن تتبدد في ضباب الفوضى. الصومالية التي كانت يوماً مفخرة منطقةٍ بأسرها تحوّلت إلى عنوان حزنٍ طويل. الآباء يتهامسون عن الوطن المفقود، والأطفال يولدون بأسماء بلا مستقبل، والبحر الممتد أمام المدن لم يعد بوسع أمواجه حمل الأمل نحو الشاطئ. القلوب المرتجفة تسأل: أين هو الغد؟ أين تختبئ الشمس؟ غير أنّ جوار الصومال لم يُغلق أبوابه، ولم تستسلم دوله لليأس. جيبوتي الصغيرة بحجم الخريطة، الضخمة بحجم ضميرها، تابعت هذه الحكاية بعيون تقرأ الوجع وتفهم معنى الروابط العميقة. جغرافيا مشتركة، دم واحد، ثقافة واحدة، وتاريخ يثبت أن الشعبين عاشا روحاً واحدة في جسدين. الأغاني الصومالية التي تملأ المقاهي الجيبوتية لم تغب رغم العواصف، والقلوب حافظت على إخاء لا تهزّه الحروب. فخامة رئيس الجمهورية السيد إسماعيل عمر جيله وقف في لحظة مفصلية أمام الحقيقة: لا سلام حقيقياً في المنطقة إلا بانطفاء نار الحرب في الصومال. السيادة تعتز بالأمن، والجوار يقاس باستقرار الأشقاء. الصومال حين يتألم يصل صداه إلى البيوت الجيبوتية، والسفن في موانئها تشعر بثقل الرياح حين يُصاب الجنوب بالارتباك. تلك القناعة صنعت قراراً عظيماً: صناعة السلام مسؤولية أخوية قبل كونها واجباً سياسياً. قائدٌ آمن بأخوة الدم، وقاد دبلوماسية منسوجة بخيوط الحكمة والعقل والنية الطيبة. اعتمد رؤية تردّ الروح إلى الصومال عبر حلّ ينبع من داخله، يجمع كل أطيافه ويمنح كل صوت حق الجلوس إلى الطاولة. من هنا بدأت ملامح الحلم تتشكل.مدينة عرتا الجميلة، بحضنها الأخضر وجبالها التي تلامس الغيم، اختيرت لتكون مسرح المصالحة. مكان تنحني فيه الأرض في خشوع أمام التاريخ. عرتا فتحت ذراعيها للوافدين من كل المناطق الصومالية. الوجوه الوافدة كانت تحمل آثار التعب، غير أنّ الهتافات الأولى للمصافحات أطلقت شعوراً أنّ هذه الأرض تُعيد ترتيب الصدور. منذ اللحظة الأولى كان واضحاً أنّ المدينة تحوّلت إلى قلبٍ نابض يصنع الحياة. جيبوتي وفّرت الأمان والإقامة والأجواء الصافية للحوار. الوفود حصلت على أفضل معاملة تُقدّم للأهل. الشعب الجيبوتي لم يتعامل مع ضيوفه كوفود سياسية فقط. العائلات فتحت بيوتها، وتنافس الناس على حسن الضيافة وكأنّ كلّ واحد ينتظر أخاه الذي غاب دهراً. الأشقاء استعادوا ابتسامة دافئة كانت الحرب قد سرقتها ألف مرة. جلس في عرتا ممثلو العشائر والنساء والشباب والعلماء وقادة الرأي. كل صوت وجد كرسياً، وكل حلم وجد فرصة ولادة، وكل قضية أتيحت لها مساحة للتعبير. الساحة السياسية عرفت أخيراً طاولة موحدة تجمع من تفرّقوا طويلاً. النقاشات أحياناً تواجه تعقيدات كبيرة، غير أنّ إرادة الصوماليين في إنهاء النزاع كانت أقوى من العثرات، ودعم جيبوتي جعل الطريق أقل وعورة. النتيجة التي خرج بها مؤتمر عرتا حملت توقيع التاريخ. تأسست حكومة وطنية انتقالية، وتشكل برلمان يعيد للدولة الصومالية هويتها المفقودة. اختيار عبد القاسم صلاد حسن رئيساً للجمهورية أعطى إشارة انطلاق نحو حقبة مختلفة تعود فيها المؤسسات من بين الركام. العَلم الصومالي عاد يرفرف أمام الكاميرات والقلوب معاً، والبحر استأنف حبه للموانئ، والطرقات تنفست، والمدن رحّبت بأصوات تبتسم بعد أن اعتادت الصراخ. في كل لحظة نجاح، ارتفع اسم جيبوتي بصوت الإجلال. فخامة الرئيس إسماعيل عمر جيله لم يقف تحت الأضواء متفاخراً، إنّما وقف بينها قائداً يعتز بما تحقّق عبر الحوار والتعقل. المحللون وصفوه بكلمات كثيرة، غير أنّ عبارة واحدة تكفيه: صانع السلام في الصومال. نظرة حكيمة أعادت ترتيب الإقليم، وروح إخاء أعادت جمع أبناء الوطن الواحد. الشعب الجيبوتي حمل مكانة عظيمة في هذه التجربة. الكرم الذي عرفته الصحراء قبل المدن جعل الوفود تشعر أنّ هذه الأرض قادرة على شفاء الجراح. المواطن أبٌ وأخٌ وصديقٌ للجميع. الصومالي الذي يفد إلى هنا يتذكّر أنّ النيل في العروق واحد وأن الهواء يمرّ من قلبين يضخّان الأمل نفسه. عرتا أصبحت مدرسة في حلّ النزاعات. الدروس تروي أنّ الحوار يستعيد البلدان، وأنّ الحلول التي تنبع من الداخل أقرب إلى النجاح. مبادرة جيبوتي صارت مثالاً تدرسه مراكز القرار، ومرجعاً لكل اتفاق لاحق يسعى لإعادة ترتيب البيت الصومالي. أثرها ما زال يضيء الطريق حتى الآن. القرن الإفريقي ينظر باحترام إلى دولة قررت أن تكون أكبر من حجمها. جيبوتي لا تمتلك موارد هائلة، لكنّها تمتلك أثمن من ذلك: عقلاً يقدّر السلام، وقلباً يعرف قيمة الأخوة. الاقتصاد الصومالي حين ينهض تتسع فرص التبادل والأسواق المشتركة. البحر يعيد للحياة تجارته النشيطة، والأمن يصبح قوة تحمي المنطقة كلها. مصير الصومال وجيبوتي ينساب في مجرى واحد، وحين يتوقف نهرٌ عن العطاء يتعثر الماء في الآخر. هذه التجربة الجيبوتية تظل تذكيراً أنّ الشجاعة السياسية تصنع أثراً لا يزول. السلام ليس مجاملة دبلوماسية، بل مشروع حياة كاملة لأجيالٍ تنتظر حقها في الفرح. حين خرج الصوماليون من عرتا، أخذوا معهم وثائق واتفاقات، غير أنّهم حملوا أيضاً امتناناً محفوراً في القلوب. اليوم، كل حكاية عن تعافي الصومال تحضر معها صورة جيبوتي. كل خطوة نحو الأمن في المدن الصومالية تشعّ من جذوة وُلدت في عرتا. كل طفل صومالي يذهب إلى المدرسة يشعر بصورة غير مباشرة أنّ إخوته في جيبوتي كانوا أوّل من ساعد في فتح باب الفصل الجديد. هذه هي القصة التي تُروى بفخر. وطنٌ أعاد الحياة نحو وطن. يدٌ انتشلت أخرى من الغرق. قلبٌ وسّع مساحته فاحتضن حلماً كبيراً. التاريخ يسجّل اسم جيبوتي على صفحاته بلون المجد، ويدوّن تحت شعارها أنّ قيادة إسماعيل عمر جيله منحت المنطقة درساً في معنى الالتزام الأخوي وسموّ الحكمة السياسية. الصومال يستعيد مكانته شيئاً فشيئاً. البحر يعود يعكس وجهاً غير ذلك الوجه الحزين. الشمس ترتفع في الأفق من جديد. جيبوتي تبتسم حين ترى تلك الأنوار في الجهة الأخرى من خليج عدن. إخوةٌ أعادتهم المحبة إلى الطريق، فتلاشت المسافات وعاد الغدُ إلى صدر الحاضر. ومن عرتا انطلقت الحياة نحو قلوب الملايين. بقلم/ أحمد الشامي - كاتب سياسي ومحلل لشؤون شرق أفريقيا