في اللقاء الذي بثته قناة الجزيرة أمسية السابع والعشرين من يناير المنصرم ضمن برامجها الممتع - بلا حدود - حاور المذيع البارع والصحفي الباحث أحمد منصور رئيس وزراء السودان ( الأوحد ) فخامة الإمام الصادق المهدي رئيس حزب الأمة السوداني ، تناول اللقاء عدة محاور ، تاريخية وآنية ،، ووقف المتحدثان عند محطات هامة ومعضلية في تاريخ الأمة السودانية الحديث ،،، ولم ينس الإمام كعادته دوماً أن ينشر على الملأ العديد من المغالطات والتي توحي للمستمع أن بعض الناس قد يكون جالساً على قمة - أو فوهة - مصدر العلم والمعلومة ، بل قد يكون من صنّاعها الأساسيين ... ولكنه قد يكون أيضا وبقدرة قادر آخر من يتعلم .. فهل مثل هذا السلوك متعمّد .. أم هو لا شعوري ؟! أتاح الشعب السوداني لفخامة الإمام ما لم يتحه لأحد من أفراده أو قادته السياسيين من فرصٍ ودعم ومساندة عبر ثلاث حقب من الزمان وعلى مدى نيف وأربعين عاماً لكي يخرج ما عنده ، ولكي ينجز ما في مخيلته من خطط ولكي ينفذ على ارض الواقع ما يتفوه به دوماً من أفكار .. ولكن كان الحصاد هشيماً .. وإخفاقا ،، والتفافاً حول النفس ودوراناً حول الكلمات واستمراراً في إطلاق الوعود والتنادي من اجل فكرة جديدة دون سؤال النفس : ماذا حققت فيما سلف من أفكار ورؤى ؟!!حينما أزاح الإمام الصادق المهدي من اسماهم بالحرس القديم في حزبه العريق من رئاسة الحزب والوزارة ( عام 1966) نادى عبر الساحة السودانية آنذاك - بما اسماه القوى الجديدة... وآزره في تلك الخطوة صهره الجديد ( آنذاك ) الأستاذ الجامعي العائد لتوه من باريس .. حسن الترابي .. ولكن حينما تولّى فخامة الإمام الصادق المهدي الوزارة إثر ذلك الانشقاق الشهير .. لم يفعل شيئاً سوى الخطابة والإجتماعات المكوكية مع فتات المائدة السياسية السودانية ،،، وأهمل " العمل " تماماً .. إذ لم يضع خطة اقتصادية ولا تنموية في أي محور ، بل ولم يتخذ قراراً ذي بال في أي امر من الأمور التي كانت تكاد تخنق المواطن السوداني .. وعندما تدهور الحال ، وأحدثت الأصولية الإسلامية آنذاك ، يؤازرها سعادة الإمام فجوة دستورية ( قضية حل الحزب الشيوعي ) ما أدى إلى الانقلاب العسكري الأشهر في تاريخ القارة الأفريقية - انقلاب 25مايو 1969 - والذي جاء بتحالف عريض لقوى اليسار .. وسار بالبلاد خطوات سريعة وجريئة للأمام ،، رغم ما شيّع به النظام من انتقاد ، وفي كل جهة أو جبهة ، إلاّ انه احدث نقلة نوعية في الحياة في السودان ( ومضى حتى عام 1980 ) في خطى شجاعة نحو التنمية في كافة مجالات الحياة في السودان ..عندما اخفق ذلك النظام ( نظام مايو ) في الاستمرار في تحقيق طموحات الشعب السوداني وفق شعاراته المرفوعة ومورثات الأمة السودانية ، حدثت الانتفاضة الشعبية المعروفة في ابريل 1985 ،، وجاء المواطن السوداني كعادته بالزمرة المألوفة ، وتولى فخامة الإمام رئاسة الوزارة للمرة الثانية ،، وكان الشعب السوداني يأمل أن يكون الإمام قد إستوعب الدروس والعبر التي أدّت بحكومات ما بعد أكتوبر (1964) للفشل .. وأن ينخرط في أجندة عمل تختزل آثار الشمولية وتطلق العمل الاقتصادي وتؤسس لديمقراطية وتنمية مستدامتين .... ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث بل حصد الناس كلاماً فوق كلام .. وندوات تلو الندوات .. واجتماعات ولجان لا حصر لها ... وذهب الإمام في رحلة شهيرة لإيران بزعم توحيد أهل القبلة .. وأهل السودان يتمزقون في كل إقليم .. وأصم أذنيه عن كافة المطالب الوطنية بضرورة تحديث الآلة الحكومية وضرورة إعتماد منهج علمي في التخطيط وضرورة تأطير وتأصيل لامركزية الحكم .. وضرورة تحديث العملية السياسية خاصة داخل الأحزاب الكبرى ، وحزبه احدها ، بتخليصها من السيطرة الأسرية والجهوية من اجل استدامة العملية الديمقراطية ... ولكن دون طائل ، فقد تمددت الأسرة وأحكمت قبضتها على مواقع القرار في الحزب ،، ورفض الإمام مخرجات أول ( وأكبر ) مؤتمر قومي للتخطيط ( 1987) ورهن قبول توصياته بقبول أجهزة الحزب لها ، والحزب لم يكن بعد قد انشأ تلك الأجهزة الضرورية ... ثم كانت خاتمة الأثافي والقشة التي أطاحت بالرجل والبعير عدم جدية حكومة الإمام في التعامل مع مشروع السلام السوداني - أو اتفاقية الميرغني/ قرنق 1988 - والتي جاءت بحل مثالي لإيقاف الحرب في الجنوب- دون تقرير مصير .. دون دولتين ..دون كل سلبيات نيفاشا ... وما ذلك إلاّ لأن من جاء بالاتفاقية هو خصمه اللدود ( الميرغني ) زعيم الاتحاديين ، ورُوي انه قال في مجلس خاص للإمام حضره صحفي أو اثنان (( الاتحاديون رفعوا العلم وطلعوا فوق رأسنا 30 سنة ..الآن يجيئوا بالسلام ويطلعوا فوق رأسنا 30 سنة أخرى !! لا يمكن !! )) على ذمة الراوي .. ولكن معطيات وأحداث ومآلات تلك الحقبة السيئة من تاريخ السودان توحي بشيء واحد : أن زعامات الطائفية لا تثق ببعضها رغم تحالفها التاريخي .. وان زعامة الطائفة المعنية تضع مصالح الأسرة والطائفة فوق مصالح الشعب السوداني كله ..
ونعود للحلقة التلفزيونية المشار إليها في أول المقال ...لقد دخل فخامة الإمام في مغالطات وتناقضات عديدة ... في محاولاته المتكررة لتبرئة ساحة فترات حكمه الممتدة عبر ثلاث أجيال من التردّي الذي طال الحياة في السودان .. مدعياً أن كل ذلك من نتائج وإفرازات الحكم الحالي . وأول هذه المحطات كان مشكلة تقرير المصير للجنوب ، والتي يجزم الإمام بأنه حتماً سيؤدي للانفصال .. دون سؤال نفسه أو الإجابة على السؤال الحتمي : ماذا كان في وسع النظام أن يفعل لإيقاف الحرب في الجنوب والتي أوشكت أن تأكل الأخضر واليابس في جنوب السودان وشماله ، وبأي شكل ، بعد فشل ساسة منتخبون يملكون الشرعية القانونية والتفويض والسند الإقليمي والدولي في إيقافها عبر اتفاق سلام سلس ومرن ومأمون ؟ فالإمام وقد فشل في إيقاف الحرب عبر ذلك الاتفاق التاريخي ( الميرغني / قرنق 1988) عليه الاّ يعيب على الآخرين إيقاف الحرب عبر أي اتفاق .. والإمام وقد انخدع لصهره وزمرته ، ورهن أماني وأشواق الشعب السوداني في الشمال والجنوب لموافقه الأصولية الإسلامية على بنود ذلك الاتفاق المأسوف عليه ، عليه أن يحترم عقول الآخرين ، ويبطل ذم اتفاقية السلام الشامل ( نيفاشا 2005) بدعوى اشتمالها على بنود تقرير المصير .. فقد جاءك السلام على صحن من ذهب ، ودون تقرير مصير ،، ودون ،،ودون ،، ورفضته ووأدته بالأغلبية الميكانيكية في البرلمان الأخير .. حتى جاء صهرك بأبنائه وأعوانه للقصر على ظهر الدبّابة..ومن المغلطات المضحكة جزم الإمام بان الوحدة الآن غير جاذبة ولكنها ستصير جاذبة إذا فاز هو في انتخابات الرئاسة المقبلة .. وهذه هي نفس العقلية التي وأدت اتفاق السلام المشار إليه .. أي أن الوحدة ستكون جاذبة تحت إمرتنا وقيادتنا .. ولكنها لن تكون جاذبة تحت إمرة أحد آخر .. ويظل الإمام يكرر في رتابة معهودة أن اتفاق كوكادام ( 1986) هو الأصل ، في حين يعلم الجميع أن اتفاق كوكادام لم يكتمل ولم ينضج ولم يؤدي إلى وثيقة سلام متفق وموقّع عليها.. في حين اتفاق الميرغني/ قرنق (1988) قد جاء بكل ذلك !!!
والمغالطة الثانية كانت دارفور .. فقد إستلم فخامة الإمام وهو رئيس للوزراء ووزير للدفاع - تنويراًٍ إستخباراتياً هاما ًومؤكدا ًمن قمة الأجهزة الأمنية ( عام 1987) بان قوة إقليمية ( وجوارية للسودان ) ضالعة في إمداد فصائل مسلحة في الإقليم بالعتاد الحربي المتنوّع والمال وناقلات الجنود ( عبّارات صحراء ) لإحداث خلخلة في الإقليم بنوايا توسعية ( ونوايا أخرى ) وخلق دويلة جديدة تخلخل التوازن المتوارث على الأرض لصالح الجارة الطموحة ... ولكن فخامة الإمام - كعادته - أغفل هذه المعلومات ولم يأخذها مأخذ الجد وظل يتعامل مع المشكلة المتفاقمة على أساس إنها عمليات " نهب مسلح " و " قطاع طرق " .. وحينما تقدم كوكبة من العلماء ( 1987) بدراسة تشرح الأمر في إقليم دارفور من ناحية الصراع على الموارد الطبيعية ( صراع الواحة والرعي ) وتوصي بضرورة الاهتمام بفض الإشتباك بين الرعاة المزارعين بإيجاد مشاريع تنمية حقيقية ( المزارع الرعوية الكبرى ، تنمية المياه ، تقنين حيازة الأرض .. ) ذهبت تلك المبادرات أدراج الرياح ،، وإنخرط الإمام في سعي آخر من أجل " توحيد أهل القبلة " .. أي الصلح بين العراق وإيران وعند السؤال عن مآلات التقسّم والتشرذم " الدويلات " التي تلوح في أفق السودان ، يخرج علينا الإمام بفكرة وحدة أفروعربية تضم ليبيا .. مصر .. تشاد .. يوغندا .. أفريقيا الوسطى ، ولم يسأل الإمام نفسه : كيف نوحّد دولاً كهذه ونحن لم نحافظ على وحدة بلدنا ؟!! ومن المغالطات العجيبة والتي لا تشبه الإمام - وهو رجل مثقف ودرس السياسة والتاريخ ومارس العمل السياسي 50 عاماً - نعيه على النظام الحالي إلتفافه نحو ما أسماه القوى التقليدية وإحتفاؤه بها ولم شملها (( وإدخالها في حزبه )) رغم إدعاء النظام - أيامه الأولى - وقوفه ضد كل هذه الكيانات ..ألا يعلم الإمام أن السياسة فنُّ الممكن ؟! إلا يعلم الإمام أن التعلّم من الأخطاء والعودة للحق خير من التمادي في الجهل والالتحاف بالباطل ؟ ألا يعلم الإمام أن قوة السودان في تماسك نسيجه الإجتماعي بطرقه الصوفية وزعاماته القبلية ونقاباته التاريخية ؟!! ألا يعلم الإمام أن النظام - أي نظام - يمكن أن يتعلّم ، ويمكن أن يتطوّر ؟! ألا يعلم الأمام أن نظاماً يتعلّم من أخطائه ويراجع نفسه خير لنا - أهل السودان- من أنظمة لا تتعلّم ولا تراجع ولا تتراجع ؟! فإذا نبذ النظام الشمولية ،، ونبذ الأحادية ،، ونبذ عباءة الشيخ الأوحد ،، ونبذ إقصاء الآخر ،، فهل نحمد له ذلك ونشدُّ من أزره من أجل المزيد من الانفتاح أم نقول كما يقول الحمقى : لمَ لم تفعل ذلك من يومك الأول ؟!!
ومن المغالطات "المستقبلية " إيحاء فخامة الإمام بأن الإنتخابات (إذا كانت حرة ونزيهة) سوف تأتي بحزبه ،، وإن لم تأتي بحزبه فهي قطعاً إنتخابات غير نزيهة .. فعلى الجميع أن يضعوا هذه الإيحاءات موضعها من الجدية ... وإذا كان الشعب السوداني قد تعلّم من أخطائه .. فماذا يعمل الشعب مع قادة لا يتعلّمون ؟!!
بابكر عباس
- سوداني مقيم في جيبوتي