من المؤكد أن جيبوتي أصغر ابن من سلالة "القرن الإفريقي" الذي ينحدر منه أجداد المنطقة وشعوبها الكثيرة التي كوّنت دولاً متعددة وكبرى في الإقليم الذي يشتهر باسم جدهم الأكبر "القرن الإفريقي" ولم يكن نصيب جيبوتي من تركة هذا الجد وفيراً، حيث لم ترث منه غير مساحة جغرافية محدودة ومناخ صحراوي وموارد شحيحة وبيئة ساحلية لم يكن يحبذها الناس في ذلك الزمان، وبطبيعة الحال فإن عدد سكان آخر عنقود سلالة القرن الإفريقي ضئيل، وكان يبدو أن إخوتها الكبار استأثروا بموازين القوى والكثرة والتفوق، إلا أنها اختصت ببركة ودعاء والدها التي غيّرت كثيراً من تلك الموازين بل وتفوقت فيها بفعل ما أحدثته من مفعول يضاهي فائدة ما لدى غيرها الأقوياء وتجلّت تلك البركات في أهمية وإستراتيجية موقعها الجغرافي الذي اجتذب منذ وقت مبكّر من تاريخها أنظار القوى الاستعمارية الكبرى آنذاك وربطها بالاستعمار الفرنسي، وقبل أن تبلغ الرشد وتملك أمر نفسها عرفت جيبوتي عملية تطوير كبيرة وازدهار تجاري واحتضان خط لسكة الحديد وميناء حر يجعلها منفذاً بحرياً للتجارة الإقليمية والدولية، وقد أثار ذلك غيرة وطمع من كان يحظى بقسط وفير من القوة والحجم في المنطقة، وبعيد نيل الاستقلال كان كل شيء يوحي بأن عمر هذه الجمهورية الفتية لن يتجاوز بضع سنوات بسبب ما تواجهه من تحديات خطيرة تتمثل في انتشار الفقر وانعدام الموارد الطبيعية وعدم توفر بنى تحتية اقتصادية قوية ووجود انقسامات عرقية، وبيئة إقليمية غير مستقرة تشهد نزاعات وصراعات، وفي هذه الظروف يبرز أثر الدعاء الذي حظيت به، ففي الزمن الذي كان يسود في المنطقة الصراع على السلطة وعهد الانقلابات وحكومات مستبدة وحروب إقليمية وأهلية وأزمات سياسية، كانت الحياة السياسية في جيبوتي تتسم بالهدوء والتوافق بفضل الزعماء السياسيين الذين تعاقبوا على قيادة الدولة الفتية وكان لهم كثير من الحكمة السياسية في مواجهة حالة التوتر المحيطة بها وكانت سياسة الحياد عنوان تلك المرحلة في السياسة الخارجية وبينما كانت تعزيز الوحدة الوطنية والحفاظ على وحدة التراب الوطني عنوان السياسة الداخلية، وعندما واجهت جيبوتي امتحاناً موجهاً نحو هذه الوحدة، ضربت نموذجاً فريداً في تحقيق المصالحة الوطنية بدون تدخلات أجنبية من خلال اتفاقية أبعا ومعاهدة السلام في مايو 2001م التي كرست السلام والوئام المدني والمصالحة الوطنية، ولا شك أنها من صنع وهندسة زعمائنا السياسيين وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية وبتلك الحنكة السياسية تمكنت جيبوتي من أن تظل واحة للأمن والاستقرار في منطقة تعج بالحروب والصراعات طوال العقود الثلاثة الماضية فأصبحت منارة للقرن الإفريقي يهتدي إليها كل من يطلب الاستقرار ويعاني من ويلات الحروب ونجحت في ترويج قيم السلم وإشاعة مبادئ حسن الجوار وثقافة الحوار لإحلال الأمن في كافة ربوع المنطقة وتمتلك رصيداً من مبادرات السلام وجهود المصالحة بهذا الخصوص ولم تتخل عن دعم جهود إحلال السلام في الصومال الشقيق . وبعكس التوقعات في إمكانية إعاقة عامل الاقتصاد في استمرارية الدولة الوليدة فقد ثبت أن جيبوتي وبالرغم من مساحتها المحدودة وندرة مواردها فإن عطاءها يأبى أن تَحِدَه حدود ويفوق دائماً حجمها الجغرافي وتعداد سكانها، ولذلك أصبحت جهة في القرن الإفريقي يقصدها كل من يطمح إلى رغد العيش وتحسين أحواله المادية، كما أصبحت صاحبة شأن في منطقة تعاني من الفقر والمجاعات، ودعى لها بكل لغات المنطقة كل من وجد فيها ضالته ولمس أن جيبوتي أرض العطاء، ومن جانب آخر لم يَحُد صغر مساحتها وحجم سكانها من أن تكون أرضاً للتبادل واللقاء يتسع لمصالح كافة الدول والشعوب وتواجد قوى وتحالفات تتعارض مصالحها ولكنها تلتقي في جيبوتي دون تصادم لأنها في بلد السلام، وقدرت أن تكون محوراً تجارياً واقتصادياً للإقليم وتكتلات اقتصادية كبرى كمنظمة كوميسا، فبعد أن قامت ببناء المؤسسات الرئيسية التي تسمح للبلاد بالبقاء والاستمرار وتجاوزت الاعتماد المباشر على المساعدات المالية للدول الشقيقة والصديقة التي تعهدت بدعمها وهي إحدى مظاهر تحقيق الدعاء.


فإن الإرادة السياسية الحالية تراهن على الاستفادة من مزايا موقعها واقتصادها، لجعل جيبوتي مركزاً للأعمال والتجارة والمال إقليمياً وحتى دولياً ولتحقيق ذلك تقوم الحكومة بتنفيذ مجموعة من الإجراءات والإصلاحات الهيكلية التي تمس مجالات الاقتصاد الكلي والمالي. وعليه أصبحت البلاد في مرحلة نموّ حقيقي من خلال مشاريع تنموية طالت جميع المجالات واستهدفت تنمية المجتمع وتحسين أوضاعه، وحظيت الدولة بثقة المؤسسات المالية الدولية ومساهمة شركاء التنمية في تلك الجهود، وتوافد استثمارات أجنبية وانتعاش القطاع البنكي، لأن جيبوتي بلد يطبق الاقتصاد الحر وتتمتع بعملة قوية ومستقرة ومدعومة بالدولار الأمريكي ولها سعر صرف ثابت فإذا كان كل ذلك يجسد البركة والدعاء الذي تميزت به جيبوتي فإنه تحقق في ميادين أخرى منها أن جيبوتي تنظم مسابقات إقليمية للقرآن الكريم وتحتضن إذاعة للقرآن الكريم وتقوم برعاية وتطوير اللغات المحلية في المنطقة وهي حاضرة الثقافة والفن في المنطقة ورائدة في مجال تطوير المرأة وتقوم بمشاريع زراعية تتحدى الظروف المناخية مثل تنفيذ مشروع تنمية زراعة النخيل والزراعة التي تتم داخل البيوت المغطاة وأخرى تتجاوز مساحتها الجغرافية كاستزراع أراض في دول المنطقة، وفيها تتركز صناديق للتنمية المجتمعية حتى إن فريضة الزكاة وجدت صندوقاً يقوم بإحياء تطبيق تلك الفريضة. وإن وجود رؤية سياسية وإصرار لدى رئيس الجمهورية لجعل البلاد مركزاً للأعمال والتجارة على المستوى الإقليمي أو حتى الدولي هي أيضاً من بركات ودعاء والدنا "القرن الإفريقي" لجيبوتي.





عبد السلام علي آدم