إن الوطن يحتاج إلى يقظة شبابه واستعدادهم للتضحية كي لا يقع فريسة لأطماع لا تنتهي
إن الاحتفال بعيد الاستقلال يعود بالذاكرة إلى الوراء لتقلب صفحات الماضي ونحلق في أجواء النضال من أجل الحرية فنترحم على أرواح الشهداء من خلال انستضافتنا شاهداً من شهود ذلك العصر الأليم نستذكر معها ما حدث لعله يفيد الحاضر والأجيال القادمة.... ومهما اختلفت الأساليب ... بالكلمة... بالسلاح ... بالسياسة ... بالرفض.... والاحتجاج فالنضال واحد... والهدف واحد وهو نيل الحرية وطرد المستعمر الغاشم.
ولم يتخلف أحد من النضال لإنجاز تلك المهمة النبيلة... رجالاً ونساءً على حد سواء، وقد ساهمت المرأة جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل في دحر الاستعمار وتوعية الأجيال ونيل الاستقلال الذي رواه المناضلون الشرفاء والأحرار بدمائهم الطاهرة من أجل كرامة هذا البلد وشعبه، وبعد أن استضافت القرن على صدر صفحاتها الغراء في عيد الاستقلال العام الماضي إحدى الجنديات المناضلات بالسلاح مع الجبهة خارج الوطن تستضيف اليوم في الذكري الرابع والثلاثين للاستقلال إحدى المناضلات بالكلمة المشهورة بالشعر النضالي.
كانت ضمن الزهور المغنية للحرية... التي كان شعرها مادة للأغاني الحماسية في كثير من المحطات النضالية ، كرهها للمستعمر فجر فيها موهبة الشعر وخاصة النضالي منه وهي لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها.. حماسها ونشاطها الزائد جعلها تختار لتكون المسئولية الثانية في الفرقة الممثلة للحي الخامس وعضواً يسمع رأيه في اللجنة الشبابية العاملة مع حزب lpi في نفس الحي... عرفت مبكراً أن للشعر سحره وتأثيره ودوره في إشعال روح المقاومة والصمود فاختارته كوسيلة تحارب بها الاستعمار وبتلك الشاعرة المناضلة السيدة/ آمنة أوعلي عمر تلتقي القرن في بيتها الكائن في حي السابع وأجرت معها هذا الحوار:-
القرن/ حدثينا عن تجربتك النضالية وملامح تلك الحقبة من تاريخ بلادنا ؟
الشاعرة/ ولدت ونبرات الأسى تتردد في الأجواء تفتحت عينايا وأنا أسمع عن وحشية أفعال المستعمر وعن تنكيله بالشعب بالقتل والتعذيب والتشريد، وكم الأفواه، وسلب الحرية وعلى وجه الخصوص حرية القول.
كانت فترة النضال طويلة ومتسلسلة ومشاركتي فيه كانت في سنواته الأخيرة، كنت في ذلك الوقت شابة في مقتبل العمر حين خطوت خطواتي الأولى لأشارك بأسلوبي في النضال بعد أن أدركت المعنى الحقيقي للاستعمار رأيت قبح وجهه وعشت لحظاته الأخيرة.
ولا يمكن إيفاء النضال حق وتاريخه الطويل بالكتابة أو بالحديث عن معاناة شعب خلال ساعة أو ساعتين، لأن الاستعمار كما هو معروف للجميع يسلب الشخص أعز ما يملكه بل كل ما يملكه من حرية ودين وثقافة وتراث... وعن البلد التقدم ومسايرة التطور ومواكبة دول العالم كانت فرنسا من أقوى وأكثر وأسوء دولة استعمرت الدول الإفريقية.
لاشك أن المستعمرين سواسية في إذلال الناس وإن كان منهم من يبنى البلد الذي استعمره ولكن المستعمر الفرنسي حول جيبوتي إلى سجن كبير بعد أن حاصرها بالأسلاك الشائكة والألغام، ولا أحد يعرف كم من مواطن خطفت تلك الألغام روحه على الحدود وهو يحاول زيارة أهله داخل السجن الكبير، ومن قدموا أرواحهم قرباناً للحرية خلال النضال أكثر.
القرن/ لاشك أنك ممن اشتهرن بأشعارهن النضالية، كيف بدأت مسيرتك مع الشعر النضالي؟
الشاعرة/ على ما أذكر بدأ انفعالي وحماسي الحقيقي للقيام بشيء من أجل هذا الوطن عام 1974، كنت شابة في السابعة عشر من عمري، فقد أرسلني أهلي ذات مرة إلى مركز المعلومات التابع للدرك وفي طريقي إلى المركز وتحديداً عندما وصلت قرب مسجد حمودي صادفت مجموعة من الشباب اجتمعوا في ساحة محمود حربي يطالبون بالحرية والاستقلال ورحيل الاستعمار، ومنذ صغري كنت مشبعة بروح النضال وانتابني شعور غامر يدفعني إلى الانضمام إلى تلك الجموع وإلى فعل شيء لأعبر عما بداخلي، لم تسعفني أفكاري ولم أستطع الاستجابة لرغبتي في المشاركة لكوني في خدمة أهلي، وعدت إلى البيت، وصادف ذلك اليوم زيارة وزير شئون المستعمرات الفرنسية السيد/ أوليفي استير والذي جاء إلى جيبوتي ليرى إذا كان الشعب الجيبوتي يرغب في بقائه تحت الاستعمار أو يطالب بالحرية. وفاجأني أن أسمع في نشرة أخبار المساء أن الوزير قام بجولة تفقدية تأكد خلالها من أن الشعب الجيبوتي لا يرغب في الحرية، في تلك اللحظة بالتحديد ثار غضبي وانفجر ليرد على ذلك الوزير الذي ادعى زوراً على شاشة التلفزة أننا راضون بالاستعمار، والغريب أنني كنت لوحدي حين أنشدت تلك الأبيات التي وصفت فيها إندلاع روح الحرية والنضال، وكيف خطف ذلك الوزير الحقيقة ودفنها، وأننا شعب أبيّ صامد لا يعرف ولا يعترف بالهزيمة، وأن النصر قريب قرب رحيل المستعمر موصوما بالخيبة والفشل.
وكان النضال السياسي والمسلح متوازيان ومرت الأيام بمرارتها واستمرت الجهود رضخ بعدها المستعمر للسماح بحرية التعبير لشعبنا، وتصادف ذلك القرار مع افتتاح الأحياء العشرة، وحينها بدأت الانطلاقة الحقيقية لمشاركتي في النضال بالأبيات الشعرية الحماسية والنضالية والتوعوية على مسارح الأحياء.
القرن/ كيف تقيمين دور المرأة في النضال؟
الشاعرة/ إن دور المرأة في النضال كان بارزاً بقدر معاناتها من الاستعمار وأكثر، وأستطيع القول أن نضالها أكبر وأقوى من الرجل، وهي أكثر تحملاً وهذا إذا تحدثنا عن تحركات الشعب من الداخل، وأقول ذلك من منطلق أن عدد النساء أكبر من عدد الرجال بأضعاف ويؤكد ذلك أن الرجال إما منفيون خارج البلد أو هم في سجون أو في الجبهة أو زهقت أرواحهم على الحدود وهم يحاولون التسلل عبر الأسلاك المحاصرة بالألغام ليطمئنوا على أفراد أسرهم، أو موظفون خائفون على لقمة عيش أسرهم، وقليلون من بقوا داخل البلد إذا قورن بعدد النساء، وبالتالي لم يعد مجال لبقاء المرأة داخل بيتها مكتوفة اليدين بعد أن سجن أو قتل أو شرد إما ابنها أو أبيها أو أخيها أو زوجها أو قريبها.
ونتذكر ما كان يحدث في منطقة (بودرييل) والاعتقالات الدائمة والمعاناة التي كان يتعرض لها الرجال والنساء، لذلك كانت الأم منا تحمل رضيعها وتجري حاملة الحجر لتشارك في النضال الشعبي، كما شاركت في الكفاح المسلح مع الجبهات المسلحة جنباً إلى جنب مع أخيها الرجل، كانت تشجعهم وترفع معنوياتهم وتشعل فيهم الحماس، وكما يقول المثل الصومالي لا ينهزم جيش تقف وراءه امرأة.
القرن/ حدثينا عن أسوء وأسعد لحظات عشتيها؟
الشاعرة/ إن حياتي كلها تحت ظلال الاستعمار أعتبرها كلها سيئة ولا حياة لمن لا يملك الحرية، كثيراً ما كانت تخرج الأم من بيتها ولا تعود.
أما عن أسعد لحظات عشتها هي تلك اللحظات التي أزيح فيها علم المستعمر ليرفرف علم الحرية والاستقلال الذي لطالما أنشدت له أبياتاً وأريقت من أجله الدماء فوق هاماتنا، هي لحظات من الصعب وصفها، لا تسعفني الكلمات لأعبر عنها.
القرن/ هناك من لا يقدر قيمة الحرية والاستقلال أو لا يدركها فما هي رسالتك لهؤلاء عبر هذا اللقاء؟
الشاعرة/ أقول محظوظ من ولد في الحرية، ومن لا يعرف قيمة ذلك فلينظر إلى فلسطين إلى هؤلاء الأشقاء المحرومين حتى من تلقي العلاج، والأسوء من ذلك فقد الحرية وضياعها بعد نيلها ومن يشك في ذلك فلينظر إلى الصومال والعراق وأفغانستان، لذلك ما يجب علينا اليوم هو شكر الله وحمده على نعمة الأمن والاستقرار والحرية، وأنصح الشباب الحفاظ على هذه النعمة، لأن الحرية لا تقدر بثمن يعرفها من عان من أجلها، لقد سقيت بدماء طاهرة، فهي تحتاج إلى رعاية وكذلك الجهود، والمواطن الحقيقي ليس من يقول ماذا قدم لي الوطن وإنما من يقول ماذا قدمت للوطن، وحذرت كثيرا عن التقصير في حقه وفي رعايته لأنه إذا انتهى زمن الاستعمار لم تنتهي حيله وعراقيله التي تكبل وتثقل حركة التقدم، وحذرت في أبياتي عن المستعمر الخفي الذي قد يعود بألوان مختلفة ليمتص دماء الحرية والاستقلال دون شعور أهلها، ولهذا أقول إن الوطن يحتاج إلى يقظة شبابية كي لا يقع فريسة لأطماع لا تنتهي.
نبيهة عبدو فارح