في الوقت الذي كان التنافس بين القوى الاستعمارية ولا سيما بين فرنسا وبريطانيا على أشده مطلع القرن التاسع عشر ، احتلت بريطانيا عدن وحولته إلى محطة تتزود السفن منها بالوقود والتسهيلات الأخرى ، ولما لميناء عدن من موقع هام في الملاحة البحرية نظرا لوقوعه عند مدخل مضيق باب المندب فأصبحت عدن محمية بريطانية ، ومن خلالها فرضت لندن سيطرتها على حركة السفن الفرنسية وغيرها في البحر الأحمر . وإزاء ذلك بدأت فرنسا تفكر جدياً في أن تبحث لنفسها عن موقع يقيها شر التدخل البريطاني في خطوط ملاحتها البحرية المتجهة إلى مستعمراتها في الهند الصينية. فكلفت فرنسا قنصلها في عدن ((مسيو لومبارت)) للبحث عن موطئ قدم على سواحل البحر الأحمر، وبذلك وصلت الطلائع الأولى للبعثة الاستكشافية الفرنسية إلى الضفة الجنوبية للبحر الأحمر وتحديدا ميناء أبخ، ثم عقدت فرنسا اتفاقية مع شيوخ المنطقة، وبموجب هذه الاتفاقية تمتعت فرنسا بحق استخدام هذا الميناء وبدأت توسع نفوذها على طول خليج تجوره. وفي عام 1888م اكتشفت مصادر للمياه تحت الأرض عند رأس مدينة جيبوتي العاصمة الحالية الواقعة شرقي ميناء تجورة. فقام الفرنسيون ببناء ميناء جيبوتي على أنقاض سفينة تجارية غرقت قبالة الساحل وبذلك بينت مدينة جيبوتي على الخليج المطل على جنوب البحر الأحمر. - في عام 1892 أصبحت جيبوتي العاصمة الرسمية للبلاد وأصبحت بحلول عام 1895م مدينة آخذة في الازدهار. - في عام 1894استطاع أحد العاملين في بلاط إمبراطور الحبشة وهو ميسو»ألفريد إلج» وكان سويسري الجنسية أن يقنع الإمبراطور بمنحه امتيازاً لإنشاء خط حديدي ما بين جيبوتي وأديس أبابا واتصل بأحد الفرنسيين واسمه ميسو»شيفنو» لتمويل المشروع. - في عام 1897 توصلت فرنسا إلى اتفاق مع الإمبراطور منليك لمد هذا الخط وبدأت «الشركة الإمبراطورية» لخطوط حديد إثيوبيا وهي شركة فرنسية يملك رأس مالها فرنسيون وتخضع لرقابة الحكومة الفرنسية عملها لإنشاء الخط واستغرقت عمليات مد هذا الخط الحديدي عشرين عاماً . - في عام 1948 قررت الحكومة الفرنسية منح إقليم جيبوتي نظاماً نقدياً وجمركياً خاصاً وابتداءً من عام 1949 أصبح فعلاً ميناء جيبوتي حراً. - في مارس عام 1949 صدر الفرنك الجيبوتي وارتبطت العملة الجديدة بالدولار الأمريكي، وأصبحت هذه العملة مضمونة بغطاء من الدولار في الهيئة الأمريكية الفرنسية بنيويورك. - بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حرم على المواطنين في جيبوتي الانضمام إلى أي حزب سياسي كما حرم عليهم إنشاء أحزاب سياسية في البلاد، أو عقد ندوات سياسية وممارسة أي نشاط سياسي. - سمح بعد ذلك للعمال ومعظمهم من العاملين في الميناء بتكوين نقابة عمالية كمظهر من مظاهر الديمقراطية الفرنسية، وقد تزعم نقابة العمال المناضل الكبير محمود حرب الذي أشعر الفرنسيين بأن حقوقهم لها من يدافع عنها وظهر على المسرح السياسي كزعيم سياسي يخشى منه. - رشح المناضل محمود حربي نفسه للانتخابات عام 1957م فحصل على أغلبية ساحقة من الأصوات وكانت النتيجة تعيينه نائباً لرئيس مجلس الحكومة في 30 يوليو1957. - عندما طرح الجنرال ديجول عام 1958 موضوع الاستفتاء الدستوري بالنسبة للمستعمرات الفرنسية وكان الاستفتاء محدداً والخيار فيه معدوما إذ طرح في شكل إما قبول الوجود الفرنسي في ظل التعاون والمساعدة الفرنسية أو رفض ذلك بالتصويت للاستقلال مع مواجهة القطيعة الفرنسية. ولمركزه الرسمي دعا محمود حرب الشعب إلى أن يصوت للاستقلال مهما كانت النتائج وتجاوب معه الشعب إلا أن السلطات الفرنسية قامت بتزوير نتيجة هذه الاستفتاء لصالحه. -عملت السلطات الفرنسية على تنحية محمود حرب وعزله عن مجلس الحكومة الإقليمية إلا أن المجلس الإقليمي اجتمع في الثاني من شهر أكتوبر عام 1958 في جو يسيطر عليه القلق والغضب جراء نتيجة الاستفتاء وجددوا الثقة لنائب الرئيس لكي يواصل العمل من أجل استقلال البلاد. و أصدر الحاكم العام الفرنسي لجيبوتي قراراً في الرابع من أكتوبر من نفس العام بإقالة الوزراء الذين ساندوا محمود حرب. - بسبب وقوف غالبية المجلس الإقليمي في وجه السلطة الفرنسية أصدرت الحكومة الفرنسية مرسوماً بحل المجلس الإقليمي في 21 أكتوبر عام 1958 وأمرت بطرد محمود حرب خارج البلاد فاتخذ من القاهرة ومقديشو مجالاً لنشاطه. - في 28 سبتمبر من عام 1960 استشهد محمود حرب في حادث طائرة مدبر من قبل المخابرات الفرنسية .. - وفي عام 1963 أجري تعديل على قانون الانتخابات بهدف تقليل عدد المقاعد في المناطق المستنيرة كثيفة السكان وزيادة المقاعد في المناطق الريفية . - ما أن حل عام 1966حتى كان التوتر يسود كافة أنحاء البلاد نتيجة لعدم تنفيذ الفرنسيين لأي وعد قطعوه على أنفسهم بالنسبة لتهيئة الإقليم للحكم الذاتي. - ووسط هذا التوتر الشعبي حدد الرئيس ديجول الخامس والعشرين من أغسطس عام 1966 موعداً لزيارة ساحل الصومالي الفرنسي ويوم وصوله إلى جيبوتي عبر الشعب عن مطالبهم الوطنية، وأكدوا على ضرورة تحقيق الاستقلال ورفعوا أعلاماً وطنية كانوا أخفوها عن أعين السلطة الفرنسية مرددين هتافات تطالب بالحرية واعتبرت السلطات الفرنسية ذلك إهانة شخصية للرئيس ديجول، وكان رده عدم استقبال الزعماء الوطنيين المحليين حسبما كان مقرراً ، واحتشد الجميع أمام المجلس الإقليمي الذي كان يلقي فيه ديجول خطابه، وقامت الشرطة بفض الاجتماع بالقوة مستخدمة الرصاص وسقط ستة من الشهداء وأكثر من سبعين جريحاً بلا مرر، وعلى أثرها اشتدت وتيرة الطاهرات اليومية مما اضطر سلطات الاستعمار إلى فرض الأحكام العرفية وحظر التجول ابتداءا من غروب الشمس حتى شروقها وألقي القبض على المناضلين وتم تفتيش الأحياء حياً حياً والمنازل بيتاً بيتاً. - وفي عام 1966 أقيم السلك الشائك الملغم أو ما أطلق عليه آنذاك «حاجز الموت» حول مدينة جيبوتي لمنع دخول أي شخص إلى العاصمة وفتح مدخل واحد للمدينة لا يسمح بدخوله إلا لحاملي الجنسية الفرنسية وفقد كثير من الناس حياتهم على خط الموت. - اتخذت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قرارها رقم 2228 في الثاني من ديسمبر عام 1966 بصدد الضمانات اللازمة لنزاهة الاستفتاء الذي سيجري في عام 1967 ودعت السلطة الإدارية أن تضمن التعبير عن حق تقرير المصير بكل حرية. - أصدرت اللجنة الخاصة المكلفة بتطبيق إعلان منح الاستقلال لشعوب البلدان المستعمرة في 17 مارس 1967 بياناً يتعلق بجيبوتي تؤكد فيه حق شعب جيبوتي غير القابل للتنازل عنه في تقرير مصيره. - لسخونة الأوضاع أصدر مجلس الوزراء الفرنسي قراراً في الحادي والعشرين من سبتمبر يقضي بإجراء استفتاء في ساحل الصومال الفرنسي في النصف الأول من عام1967. - حدد يوم التاسع عشر من مارس عام 1967 موعداً لإجراء الاستفتاء وقد قامت القوى الشعبية بتجميع صفوفها استعداداً للمعركة الحاسمة واتخذت فرنسا الخطوات اللازمة لأن تكون نتيجة الاستفتاء لصالحها من خلال اشتراط تمتع الشخص الذي سيدلي بصوته بالجنسية الفرنسية وإحداث الشقاق بين أبناء البلد الواحد وسحب البطاقات الشخصية عن بعض المواطنين وإبعاد الآخرين، وأعلنت النتيجة مساء نفس اليوم وكانت هي النتيجة كما أرادت فرنسا، واستنكرت الغالبية العظمى من شعب جيبوتي نتيجة هذا الاستفتاء المزور. - في عام 1967 غيرت سلطات الاحتلال اسم جيبوتي من «ساحل الصومال الفرنسي» إلى اسم «بلاد عفر وعيسى». - وفي الفترة أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم ،بدأ النشاط والوعي السياسي يزداد داخل الإقليم، ونتيجة لذلك اشتدت وتيرة المطالبات الشعبية بالاستقلال الوطني، مما اضطر الاستعمار إلى زيادة عدد قواته العسكرية فيه عام1972. - تأكيداً لسيادة فرنسا على الإقليم قام الرئيس الفرنسي «بومبيدو» بزيارة لجيبوتي في يناير عام 1973 وأعلن خلال هذه الزيارة أن فرنسا لن تغير سياستها تجاه الإقليم. - في نوفمبر من عام 1973 أجريت انتخابات جديدة للمجلس النيابي وازداد عدد أعضائه إلى أربعين عضواً. - أكد المؤتمر الرابع لقادة دول عم الانحياز في يونيو عام 1973 حق شعب جيبوتي في تقرير المصير والاستقلال طبقاً للقرار 1514 الصادر من الجمعية العامة. - في نوفمبر عام 1975 أعلنت القوى السياسية الرئيسية تشكيل تنظيم سياسي جديد أطلق عليه اسم «حزب الرابطة الشعبية للاستقلال». وكان هدف الحزب تحقيق الاستقلال بدون قيد ولا شرط ورسم سياسة حكيمة لتحركاته ،وقام بإيفاد وفد ضم كبار مسئوليه لمقابلة وزير المستعمرات الفرنسية للتفاوض للحصول على الحرية إلا أن الوزير رفض مقابلتهم، كما قام بزيارات للدول العربية والإفريقية لحشد الدعم لنضال شعب جيبوتي من أجل الاستقلال. - طالب مجلس وزراء منظمة الوحدة الإفريقية في دورته العادية الخامسة والعشرين في يوليو عام 1975 بمنح شعب جيبوتي الاستقلال. - وجه مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة شهر يوليو عام 1975 نداءً إلى فرنسا بأن تمنح الشعب الجيبوتي استقلاله. - وفي نهاية عام 1975 أعلنت فرنسا ولأول مرة عن استعدادها لمنح الاستقلال لجيبوتي. - وتحدد الثامن من مايو عام 1977 موعداً للاستفتاء على الاستقلال، وجرى الاستفتاء بإشراف الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية وجامعة الدول العربية وقدر الذين أدلوا بأصواتهم بحوالي 105 آلاف ناخب وبانتهاء عملية الاستفتاء اتضح أن 98.8% ومن الشعب أعطوا أصواتهم للحرية . - وفي الخامس والعشرين من شهر يونيو عام 1977 اجتمع مجلس النواب في جيبوتي وانتخب بالإجماع السيد/ حسن جوليد أبتدون أول رئيس للجمهورية الجديدة . بعد هذه الحقبة الاستعمارية الطويلة التي كافح خلالها الشعب الجيبوتي من أجل استقلاله الوطني، خضعت فرنسا في نهاية المطاف لإدارة شعبنا، وتم إعلان استقلال جمهورية جيبوتي في الـ 27 من يونيو 1977 م .