في مخيم للنازحين تديره الأمم المتحدة في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، تصل صفوف الخيام البيضاء المصنوعة من القماش السميك المشمع إلى أقصى مسافة يمتد إليها البصر. ويتجول الأطفال الحفاة فوق طرق ترابية تحدها أكوام القمامة، بينما يعرض البائعون منتجات غذائية مثل البيض والبصل، ويجلس الرجال داخل أكشاك خشبية يتناولون المشروبات الكحولية المصنعة منزليا. ويمر أفراد من قوات حفظ السلام راكبين سيارات بيضاء اللون، مرسوم عليها حرفان باللون الأسود يشيران إلى أنها تابعة للأمم المتحدة، متجاوزين نساء يطهين العام على الفحم، ويبدو هذا المخيم بالإضافة إلى مخيمين مجاورين وكأنهم قرى مؤقتة كاملة بخدمات المستشفيات والمدارس والكنائس، وتؤوي هذه المخيمات الثلاثة نحو ٤٠ ألف نازح.وتؤوي المخيمات في جنوب السودان أكثر من ١٣٠ ألف نازح، جاء معظمهم من المنطقة الشمالية لهذه الدولة، حيث هرب المواطنون بأعداد كبيرة من القتال الدائر بين القوات الموالية لكل من الرئيس سيلفا كير ونائبه السابق الذي تحول إلى متمرد رياك مشار. وأدت الحرب المندلعة منذ ١٨ شهرا إلى مقتل عشرات الآلاف، وهروب قرابة مليوني شخص من قراهم وبلداتهم ليقيموا في مخيمات تابعة للأمم المتحدة أو في العراء، أو ليلجؤوا إلى الدول المجاورة. وصنفت الأمم المتحدة نحو 4.6 مليون شخص من إجمالي السكان في جنوب السودان الذين يقدر عددهم بما يتراوح بين عشرة ملايين إلى ١٢ مليون نسمة، على أنهم «معرضون للخطر الشديد من الناحية الغذائية».ويقول جوناثان فيتش، ممثل منظمة الأمم المتحدة للطفولة «اليونيسيف» في جنوب السودان: إن «عدد المعرضين لخطر المجاعة زاد بمقدار مليون فرد خلال ستة أشهر، بينما يعاني ربع مليون طفل من سوء التغذية الحاد والشديد».
وتعد الأحوال أفضل في مخيمات جوبا مقارنة بالشمال، حيث شهدت بلدة ملكال تصاعدا في أعمال القتال. ويحاول المتمردون تحقيق مكاسب في هذا الإقليم الغني بالبترول قبل حلول موسم الأمطار الموسمية، كما يقول العميد لول رواي كوانج، وهو متحدث سابق باسم باسم المتمردين وأسس الآن حزبا خاصا به. وغالبا ما تمنع العمليات القتالية الطائرات التي تحمل إمدادات الأمم المتحدة من الهبوط، بينما بدأت الأمطار تعرقل السير على الطرق. ويشير فيتش إلى أن مخزون المواد الغذائية لدى الفلاحين بدأ في النفاد، ولكن القتال لا يسمح لهم بزراعة أراضيهم. وأكبر تحدٍّ يواجه منظمات الإغاثة هو الوصول إلى الأشخاص الذين هربوا إلى العراء في البرية، حيث يقتات الكثيرون منهم على ثمار التوت ولحوم الطير.ووصلت فرق الطوارئ التابعة للأمم المتحدة وكذلك الإمدادات التي تسقط جوا إلى 1.5 مليون شخص حتى الآن، ويقول فيتش «لكن هناك أشخاص في ولايتي الوحدة الشمالية وأعالي النيل لا نستطيع الوصول إليهم، وإذا لم نصل إليهم سريعا، فسوف يتفاقم الوضع هناك بسرعة».وتحاول مخيمات النازحين في جوبا في الوقت نفسه مكافحة انتشار الكوليرا، حيث تم عزل العديد من المشتبه بإصاباتهم بالمرض، خاصة بعد أن أدى المرض إلى وفاة حوالي ٢٠ شخصا في العاصمة وفقا لتقديرات مسؤولي الصحة.وبدأ المواطنون في جنوب السودان البحث عن ملجأ لدى الأمم المتحدة في جوبا، عندما أدى الصراع على السلطة بين سيلفا كير ورياك مشار إلى انقسام الحرس الجمهوري والجيش في ديسمبر ٢٠١٣، ما أسفر عن حدوث مذابح بين قبيلتي الدينكا والنوير اللتين ينتمي إليهما الرئيس وزعيم المتمردين.
ولا يزال الأشخاص الذين يخشون من أن يتحول القتال إلى أعمال قتل عرقية يتدفقون على جوبا قادمين من مدينتي بانتيو وملكال في الشمال.
وكثيرا ما تعجز الطائرات والحوامات التابعة للأمم المتحدة عن الطيران والوصول إلى مناطق الأزمات، لأن الحكومة لم تمنحها ترخيصا بالإقلاع، وذلك وفقا لما تقوله مصادر في مهبط الطائرات التابع للأمم المتحدة في جوبا، واتهمت الأمم المتحدة جنوب السودان مؤخرا بعدم السماح لقوات حفظ السلام بامتلاك حوامات هجومية وطائرات استطلاع من دون طيار. كما أفادت منظمات غير حكومية بتعرض اتصالاتها للمراقبة، إلى جانب مصادرة وثائق الهوية. ويرد المتحدث باسم الرئاسة أتيني ويك أتيني قائلا: «لدينا اللوائح التنظيمية الخاصة بنا، ويجب التأكد من عدم إدخال أية أشياء ضارة إلى البلاد». وأمرت الحكومة العام الماضي بطرد عدد من الأجانب العاملين في مجال المعونة وفي مجالات أخرى، وزعمت بأن هذه الخطوة من شأنها أن تتيح فرص العمل للسكان المحليين، ورغم إلغاء هذا الأمر، فإنه من المزمع إصدار قانون جديد يقضي بخفض عدد الأجانب العاملين في وكالات المعونة إلى الخمس».
ومنذ نحو ثلاثة أسابيع أبعدت الحكومة منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توبي لانزر، ويقول أتيني: إن التعليق الذي صرح به لانزر بأن جنوب السودان على شفا الانهيار مثل «انتقاصا من قدر البلاد». ويتهم المتحدث باسم الرئاسة «بعض الأفراد داخل الأمم المتحدة» بالانحياز للمتمردين، وهو زعم ينفيه فيتش بشدة.